بين آونة وأخرى يتم فقد قريب أو صديق أو جار، حيث إن الموت يذكرنا بنفسه حتى يثبت لنا بأن الدنيا زائلة، وأن ما تمّ إيداع ذلك الإنسان فيه «القبر»

هو بداية لدار القرار، وهذا نهاية كلّ حي اقتنع أو لم يقتنع، وذكر الموت وإن ذكراه تزعج وربما لا يتمناه أحد، لكن عندما يتذكره الإنسان يعيش في غاية السعادة، لأن الدنيا ليست الهدف الأسمى للحياة، كما أنه ليس من الكياسة أن يغفل الناس عن نهاية الحياة الشخصية، فعن ابن عمر أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَنْ أَكْيَسُ النَّاسِ وَأَحْزَمُ النَّاسِ؟ فقال: أَكْثَرَهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ، وَأَشَدُّهُمُ اسْتِعْدَادًا لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ، أُولَئِكَ هُمُ الأَكْيَاسُ ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَكَرَامَةِ الآخِرَةِ. رواه ابن ماجة. وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الأكْيَاسُ. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور ثم أذن بذلك، لأنه تذكر الآخرة والموت. رواه مسلم.

هذه المقدمة تذكرتها عند وفاة الصحفي، ابن الوطن المخلص الأستاذ المربّي مقبول فرج الجهني، وعندما بلغني نبأ الحادث الذي تسبب في وفاته ذكرت قول الشاعر:

الموت نقـــاد على كفّـــه *** جواهر يختار منها الجياد

وفيما يلي إضاءة على بعض الجوانب المشرفة لحياة الفقيد، وكلّ جوانب حياته مشرّفة، حيث نشأ بمكة المكرمة ودرس في مدارسها، ثم أصبح معلّماً لأبنائها، وانتقل إلى إمارة منطقة مكة المكرمة، وخدم بكل إخلاص الوطن وقيادته، وليس سِراً أن الصحفي المربّي مقبول الجهني له شبكة واسعة من المعارف، وسمعة طيبة ما بين أمراء المناطق والصحفيين في كافة الصحف والمجلات، ولاسيّما التي تصدر في الوطن الغالي، وهذا يدلّ على حسن تواضعه وطيب خلقه، واتساع ثقافته، وقد ذكرت بأن الفقيد عميد الصحفيين وذلك: لأنني والحمد لله كنت أطّلع على بعض الصحف، منذ دراستي في المرحلة المتوسطة ولعلّ ذلك من عام 1385 وما بعدها أي: أكثر من نصف قرن، وعلق في ذاكرتي أسماء بعض الكتّاب من أصحاب «الأعمدة» في بعض الصحف السعودية، سواء الندوة أو عكاظ أو البلاد، إضافة إلى صحيفة المدينة المنورة، ومن ثَمَّ صحيفتا الرياض والجزيرة، وبعض المجلات كمجلة المنهل، وأتذكر من الصحفيين الذين بقيت في الذاكرة «الكليلة» بعض أسمائهم، رحم الله من غادر منهم وختم بخير من بقي على قيد الحياة، منهم: المؤرخ الأديب الأستاذ عبد القدوس الأنصاري، والمؤرخ الأديب محمد حسين زيدان، والأديب المؤرخ علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر، والأستاذ المربي عثمان الصالح، والأستاذ حامد مطاوع، والأستاذ رضا لاري، والأستاذ فوزي خياط، والأستاذ عبد الله عمر خياط، والأستاذ محمد صالح البليهشي، والأستاذ عبد الله جفري، والأستاذ هاشم عبده هاشم، والأستاذ علي العمير، والأستاذ خالد المالك، والأستاذ تركي السديري، والأستاذ محمد الوعيل، إضافة إلى الكتّاب من الوزراء ولا سيّما معالي الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي، ومعالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر، ومعالي الأستاذ حسن آل الشيخ، ومعالي الأستاذ أحمد زكي يماني، ولا أستطيع حصر تلك الطبقة المثقفة التي وضعت أسس الثقافة والأدب للوطن، ومنهم مقبول فرج الجهني «رحمه الله»، وكانت بداية مشاركاته تتعلق بإمارة منطقة مكة المكرمة.

تميّز المربّي الصحفي مقبول بخدمة الآخرين، حيث إن هذه الخدمة باختلاف تنوعها يؤديها وفق ما يراه رحمه الله، فإما أن تكون تلك الخدمة بتوصية أو اتصال، أو قد يسافر لذلك المسؤول لتحقيق تلك الخدمة، وفي بداية تلك الخدمات التي يقدمها تكون لذوي رحمه ومعارفه، ومع أن حياة المذكور كلها مقترنة بمكة المكرمة وجدة، إلا أنه عمل له منزلاً بين ذوي رحمه وقبيلته في أملج، يسافر إليها بين فترة وأخرى، بل ويطلب من أصدقائه زيارته بذلك المنزل، ولعلّ ذلك تحقيقاً لصلة الرحم، فصلة الرحم هي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك، روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن يبسط عليه رزقه أو ينسأ في أثره فليصل رحمه» متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر» رواه الترمذي.

لقد وهب الأستاذ مقبول حياته لخدمة الآخرين، وقد سبق وأن ذكرت في البداية بيت شعر يستشهد به كثيراً، ممن فقد عزيزا لديه وأجدها مناسبة أن أذكر بعض الأبيات حيث إنها كلها حكمة مصاحبة لذلك البيت:

النِّاسُ لِلْمَوتِ كَخَيْلِ الطِّرَادْ *** فَالسَّابِقُ السَّابِقُ مِنها الجَوادْ

وَاللَّه لا يَدْعو إلى دارِهِ *** إلاَّ مَنِ اسْتَصْلَحَ مِن ذِي العِبادْ

وَالمَوْتُ نَقَّاٌد عَلى كَفِّهِ *** جَواهِرٌ يَخْتارُ مِنْها الجِيادْ

وَالمَرْءُ كَالظِّلِّ وَلا بُدَّ أنْ *** يَزولَ ذاكَ الظِّلُّ بَعْدَ امْتِدادْ

وختاماً أقـــــول لمقبول: إنك بين كلّ النّاس لمقبولُ