كنت أحد القليلين من أبناء جيلى الذين لم يروا الاتحاد السوفييتي الذي كان.

وقد شاءت الظروف ألا يستمر الأمر على هذا الحال. هكذا قيض لي أن أقضى أياما قبل شهور في روسيا، بلاد «دستویفسكي» و«تولستوی» و«تشيخوف» و«تشايكوفسكي» والقياصرة والفودكا والكافيار والسيدات والجميلات.

في قطار الليل قضينا ثماني ساعات من موسكو إلى مدينة بطرسبورج في رفقة وفد ثقافي مكون من فرقة أسوانية للفنون الشعبية وعازف بيانو شاب يدعى وائل فاروق (21) عاما، وهو نابغـة مـصـري ربما حكيت لك طرفا من حكايتـه في مـرة لاحقة، ورباعي الوتريات بدار الأوبرا بقيادة عثمان المهدي، والممثل الشاب هاني سلامة، والشاعر يسري حسان، والدكتور أنور إبراهيم مسؤول العلاقات الثقافية الخارجية، الذي كانت رفقته غاية في المتعة والفـائـدة بـاعـتـبـاره أحـد المدلهين بالأدب الروسي والحاصل على الدكـتـوراه عن «المكان في الجريمة والـعـقـاب» لدسـتـويفسكي، وهي الرواية التي جرت أحداثها في طرقات المدينة التي نتجول فيها الآن.

وأتوقف عند هذه المدينة الأجمل والأكثر غموضا بين مدن العالم على وجه الإطلاق. وبطـرسـبـورج (المدهش أن الـبـاعـة الجائلين هنا كلهم من الصم والبكم) كان أنشأها بطرس الأكبر عام 1703 في منطقة المستنقعات حيث يلتقي نهر النيفا (ومعناه الوحل أو الطين) مع خليج فنلندا المتصل ببحر البلطيق، راغبا أن تكون عـاصـمـة ثقافية في مواجـهـة عـواصم أوروبا، وبديلا عن موسكو بتقاليدها الدينية الصارمة.

كان يرى أن على تاريخ روسيا أن يبدأ على أرض روسية جديدة ولكن بنقوش أوروبية، لذلك تم تخطيط المدينة على يد مهندسين من إنجلترا وفرنسا وهولندا وإيطاليا. وفي عقد واحد تم تشييد 35 ألف مبنى في قلب هذه الأهوار والمستنقعات.

وكان العمل خلال الأعوام الثلاثة الأولى قد أجـهـز على نحو 150 ألفا من العمال الذين ماتوا أو أصيبوا بعاهات، مما اضطر الدولة إلى البحث عن غيرهم. وسرعان ما تحولت خسائر (بطرسبورج) إلى موضوعات أساسية لفلكلور المدينة وأساطيرها.

لقد صارت المدينة طوال القرن الثامن عشر موطنا لثقافة جديدة، استـورد لـهـا علماء رياضيات ومهندسين، وتمتع (فولتـيـر) وأقرانه برعاية بطرس الأكبر وخلفائه من بعده.

والمعروف أن روسيا القرن التاسع عشر أنتجت عبر ما لا يزيد على جيلين أحد أعظم الآداب في العالم، بل إنها بحسب ما يذهب مارشال بيرمان في كتابه المترجم تحت عنوان «حداثة التخلف» قد أنتجت بعضا من أكثر أساطير الحداثة ورمـوزهـا قـوة ودواما: «الإنسـان الـصـغـيـر البـسـيط، الفائض عن الحاجة...

لقد عملت بطرسبورج على إنتاج وتطوير نموذج متميز من الأدب وصولا إلى العصر الذي أنتجت فيه نموذجا من الثورة». يقـول بيرمان: «إن ما ركز عليه البطرسبرجيون بعد ذلك كان تراثا أدبيا متميزا بالغ الإشراق والروعة، تراثا انصب بشكل مهووس على المدينة باعتبارها رمزا لحداثة شوهاء مشئومة، ترائًا دأب على امتلاك هذه المدينة على صعيد الخيال باسم النمط الخاص من رجال الحداثة ونسائها الذين كانت قد أنتجتهم».

وهي الصفة التي رسختها أعمال كثيرة بدأت بقصيدة (الكسندر بوشكين) الشهيرة «الفارس البرنزي» بعنوانها الفرعي «حكاية بطرسبورجية» التي كانت فعلا سياسيا بمقدار ما هي فعل فني، والتي مهدت الطريق لأعمال عظيمة أبدعها كل من (جوجل) و(دستويفسكي) وغيرهما.

ويا لغرابة القياصرة ومن هم في حكمهم. كـان بطرس الأكبر قد قتل وزرع الرعب من أجل أن يفتح نافذة على أوروبا في سبيل تقدم روسيا ونموها، ثم قام نيقولا، خلفه، بممارسة القمع والإرهاب من أجل إغلاق تلك النوافذ.

واحـد اضطهـد مـواطـنـيـه مـن أجل دفـعـهـم إلى الأمام، والآخـر اضطهدهم كي لا يفعلوا.

1997*

* كاتب وروائي مصري «1935 - 2012».