أنهيت مقالي السابق عن مقام إبراهيم بتساؤل عن، لماذا قالوا إن المقام هو هذا الحجر المنحوت وإن المصلى خلفه، ولماذا رفض العلماء نقله من مكانه حين أراد الملك سعود ذلك تيسيرا على الناس؟

مقام إبراهيم، هل هو معجزة؟ وهل يمكن للنّحّاتين أن ينحتوا مثله؟.

ولأنهم لم يجدوا آيات/‏‏معجزات أخرى فذهبوا يدّعون أن الطيور لا تحلق فوق البيت! ثم ضاقت بهم السبل فقالوا إن آيات بينات مقصود بها آية واحدة هي هذا الحجر المنحوت فقط.

ينقل عنهم الشيخ السعدي بصيغة الاحتمال «يحتمل أن المراد به المقام المعروف وهو الحجر الذي كان يقوم عليه الخليل لبنيان الكعبة لما ارتفع البنيان.... والآية فيه قيل أثر قدمي إبراهيم، قد أثرت في الصخرة وبقي ذلك الأثر إلى أوائل هذه الأمة، وهذا من خوارق العادات، وقيل إن الآية فيه ما أودعه الله في القلوب من تعظيمه وتكريمه وتشريفه واحترامه، ويحتمل أن المراد بمقام إبراهيم أنه مفرد مضاف يراد به مقاماته في مواضع المناسك كلها، فيكون على هذا جميع أجزاء الحج ومفرداته آيات بينات، كالطواف والسعي ومواضعها، والوقوف بعرفة ومزدلفة، والرمي، وسائر الشعائر».

يقول الطبري «ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: «فيه آيات بينات» وما تلك الآيات.

•حسنًا؛ لنعد إلى «مقام إبراهيم» في آية «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ».

هذه الآية في سياق الجدال مع أهل الكتاب، وتقصّ البدايات الأولى؛ كيف جعل الله البيت الحرام محجة للناس ووجههم بتأمينه واتخاذهم منه مصلى ووجه إبراهيم بتطهيره وتجهيزه للناس. [هناك قراءة أخرى بفتح الخاء، في «اتخذوا» على سبيل الخبر لا الأمر].

اختلف المفسرون في معنى «مقام إبراهيم» هنا أيضًا؛ يقول الطبري «قال بعضهم: «مقام إبراهيم» هو الحج كله. وقال آخرون: عرفة والمزدلفة والجمار...وقال آخرون: الحرم كله...وقال آخرون «مقام إبراهيم»هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام».

لقد فهموا لفظ «مصلّى» بمعنى اسم مكان من الصلاة المعروفة، وهذا ما جعلهم يبحثون عن مكان محدد فقالوا «خلف» هذا الحجر المعروف بمقام إبراهيم. مع أن «اتخذوا من مقام» تختلف عن «خلف مقام». فحين أقول لك: (اتخذ من المزرعة سكنا) فأنت ستسكن فيها لا خلفها. كما أن الناس يتخذون من المسجد كله مصلى كما نعلم ونرى كل حين.

* عندما لاحظوا المشقة والاعتساف في فهمهم لم يتراجعوا عنه، بل جعلوا الآية تتراجع! فالأمر في «واتخذوا» يتراجع ليكون على سبيل الاستحباب لا الوجوب. يقول أحمد حطيبة في كتابه «شرح الجامع»:

«والمستحب أن يصليهما [ركعتي ختم الطواف] خلف مقام إبراهيم، وإذا كان قريبًا فهذا هو الأفضل، لكن لو فرضنا أن قربك مع ازدحام الطواف سيؤذي الطائفين ويعطل الطواف... فيجوز لك أن تصلي ركعتين داخل الحجر، وفي أي مكان من المسجد صليتهما جاز لك ذلك، فإن صلاهما خارج الحرم في وطنه أو غيره من أقطار الأرض صحت وأجزأته، فيكون قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ليس على الوجوب، فإذا فاته أن يصلي خلف مقام إبراهيم لشدة الزحام وخرج حتى صار خارج الحرم أو خارج المسجد الحرام فصلاهما جاز له، وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه صلاهما بذي طوى».

* كم هو تفسيرهم محرج! فها هم في كل مرة يعودون مجبورين إلى القول إن خلف المقام قد تعني في أي مكان داخل المسجد وحتى خارجه! كانوا سيتجنبون الحرج لو أنهم تخلوا عن مسألة «معجزات» وأخذوا من البداية كلمة «مصلى» بمعنى مكان تجمع للعبادة، والمقام بمعنى مكة كلها بمسجدها ومشاعرها، ففيها أقام إبراهيم مع ذريته وفيها قام بدعوته فهي مَقامه ومُقامه، والناس يتخذون منه مصلّى من إيام إبراهيم حتى اليوم.

* إن السبب في تفسيرهم للمقام بأنه هذا الحجر المنحوت سببه هو بحثهم عن معجزة، وسبب بحثهم عن معجزة هو أنهم فهموا قوله «فيه آيات» بمعنى معجزات، وأن كلمة «مصلّى» تعني فقط الشعيرة المعروفة، ودعموا ذلك برواية اقتراح عُمر بن الخطاب الصلاة خلف المقام. وكل هذا لم يخرجهم من الحرج.

فحسب ما رأينا من سياقات الآيات المبينات فكلها تعني بمقام إبراهيم مكة كلها. مكة كلها بمشاعرها هي مكان تجمع الناس للعبادة، وتجمعهم فيها للعبادة هو بالضبط معنى اتخاذهم منها مصلى.

• في السبعينات لاحظ الملك سعود -رحمه الله- مشقة الطائفين عند مقام إبراهيم فحاول نقله إلى مكان آخر ليسهل حركة الطائفين والركع السجود إلا أن بعض العلماء رأوا بقاءه في مكانه، ثم رأى الملك فيصل -رحمه الله- أن يزيل البناء المقام على هذا الحجر ويعيده بشكل أصغر تيسيرًا على الناس، وهو شكله الحالي. لقد كان رفضهم منسجمًا مع فهمهم أن هذا الحجر المنحوت معجزة تدل على مشروعية المسجد الحرام وأنه أول بيت، ودونه فلا معجزة ولا دليل. ولا آيات بينات في المسجد!

• في 3 يناير 2014 نشرت صحيفة المدينة نقاشًا عن جواز أو عدم جواز نقل مقام إبراهيم، ومما فيه «أن من قال بجواز نقله جماعة من العلماء منهم المعلمي في رسالته: (مقام إبراهيم) ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ في رسالته: (الجواب المستقيم في جواز نقل مقام إبراهيم) وعلي الصالحي في رسالته: (التنبيهات حول المقام)....وفي السياق ذاته قال أستاذ الدراسات العليا بكلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية صالح السدلان إن هناك حاجة لنقل وتغيير المقام لما يسببه من عرقلة للطائفين، موضحًا أن هذا أمر محسوس وملموس على أرض الواقع. وأضاف السدلان أن هذه القضية بحثت وعرضت على العلماء ولم يبت فيها بشيء إلى الآن، وعن وجود مانع شرعي من نقل المقام وتغييره أجاب السدلان بأن هناك مانعًا شرعيًا، لأن بعض المعرضين يحتجون بأن هذا المقام من عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام ولم يتغير أو ينقل، لكن السدلان أكد أن المصلحة فوق كل ذلك».

* أخيرًا: مقام إبراهيم تعني مكانه الذي أقام فيه وقام فيه بنشاطه ودعوته. وهو مكة كلها بمشاعرها مهما توسعت، واتخاذها مصلى تعني مكانًا للتجمع والعبادة. وهو ما فعله الناس من إبراهيم حتى اليوم.

إن النظر في نقل هذا الحجر عن صحن المسجد الحرام هو من ضمن الامتثال لقوله «طَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ».