هناك مسائل يصعب الجزم فيها بالصواب، قد تكون محل خلاف بين كثير من المذاهب القديمة والجماعات والأحزاب الإسلامية المعاصرة، مع أن تلك المسائل تتخللها عند دراستها والتمعن فيها تأويلات شتى ولا يستطيع الباحث الصادق -ممن جمع علوم الآلة الحقيقية في فهم النصوص والتمييز بين سقيمها وصحيحها دون تساهل في الأخذ بتلك الأحاديث- أن يجزم بقولٍ يعتقد أنه هو الفاصل في تلك المسائل، وأن ما عداه من أقوال ليس لها حظ من النظر.

وهذا المنحى الآخذ في مسار عدم اليقينية والقذف بالقول الجازم هو توسيع لمدارك العقل كي تتأنى في اختياراتها وتتحفظ وتنتظر وتتأمل قبل الاصطفاف في معية المسار اليقيني الذي يُغلق كل باب من أبواب التأويل وينحدر بالعقل إلى هوة سحيقة لا يتمكن من الخروج منها إلا بعد أن يرتكب دمارًا كليًا يقضي على كل مقومات الحياة، وهذا مشاهد ومُدركٌ فيما تفعله أفكار الرؤية الأُحادية، ولقد أدركنا زمنًا ليس بالبعيد كانت تلك الأقوال اليقينية التي تم وصمها والختم عليها بيقين مطلق أنها هي صورة الإسلام الحقيقي وأن ما عداها هي جاهلية وعبث شيطاني ومروق من مسار الملة الحنيفية ودخول في صحبة حزب الشيطان واللادينية والعلمانية التي تقوض كل مبدأ من مبادئ الإسلام.

وكان الخلاف في تلك المسائل الفقهية موغلًا في القدم التأريخي، حيث إن الخلاف فيها قد وقع بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان المتبنون والمظهرون لتلك الأقوال اليقينية يعلمون علمًا يقينيا أن تلك المسائل تتضمن خلافاتٍ فقهية حقيقية، وأن الخلاف فيها قديم -وقد نشأ في عهد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم- بيد أنهم كانوا مهووسين بوهم تصور أن هناك الغير والآخر الذي يُريد هدم المبادئ والقيم التي جاء بها الإسلام.

وبعد دراسة متأنية وممعنة لتاريخ تلك الفترة، ومن خلال العيش فيها ومعاصرتها وقراءة كل بحوث المسائل الفقهية التي كانوا يصبغون المجتمعات بها ويقسمونها على ضوء تلك المسائل، بل إن ذلك التقسيم قد وصل إلى حد العزل الحقيقي بين أفراد الأسرة، فقد تم خلق وهم في التصور الجمعي لعقلية المجتمع أن الناس في هذا الزمن المعاصر يسيرون على (خلاف الهدي النبوي والمقصد الشرعي)، وهذا المصطلح كان شعارًا قد غزا العقول والذوات والأنفس في كل أجزاء المجتمعات، وكان ذلك الشعار نحسه معنا أينما نسير، بل كان مثل ظل الإنسان يُصاحبه في كل سكناته وحركاته، وكان من المؤذي أننا لم نجد في تلك الأيام ما نجده الآن من وجود لقنوات التواصل والاطلاع على رؤى وتصورات أُخر يمكن أن يكون لها المقدرة والاستطاعة على تفكيك تلك الكتلة اليقينية التي تم وضعها أمام مُدركات العقول وتطلعات النفوس والذوات المتعطشة للفهم كي تتخطى تلك الجبال الرملية التي تم وضعها أمام تلك العقول كي يتم إعاقتها من الخروج من وهم اليقينية المحضة إلى نسبية الكون كي يشحذ العقل همته في التغلب على أوهام تلك اليقينية المطلقة التي لا تورث يقينًا بل إنها مسار حقيقي إلى شك عبثي قاد أصحابه إلى تبني الفوضى والعبثية الفكرية التي ليس لها أي هدف أو مقصد أخلاقي يمكن أن يُعطي لحياة الإنسان معنى وطمأنينة نفسية. وقد وصلت اليقينية في الرؤى والتصورات من هذا المد صاحب المسار اليقيني وغير القابل لأي خلاف إلى فهم كثير من المصطلحات والأفكار المعاصرة. وهذا الفهم في إقحام اليقينية في فهم تلك المصطلحات والأفكار المعاصرة قد كان حجر عثرة أمام اطلاع الشبيبة المسيطر عليها بتلك الفكرة اليقينية من أن يكون لها الحق في تنقل عقولها بين الأفكار والرؤى المتعارضة والمتناقضة كي تعلم أننا لم نُخلق برؤية أُحادية، بل إن التعدد والتنوع الفكري والعقلي هي سمة أصيلة ومُرادة من قبل خالق ومبدع هذا الكون. كانت مصطلحات مثل العلمانية والشك الفلسفي ومصطلح المدنية ومصطلح الفردية ومصطلح المجتمع المدني، مصطلحات يصوغها أصحاب المسار اليقيني لرؤى وتصورات تتوافق مع ذلك المسار اليقيني لتخذيل كل أحد يُريد القراءة أو الاطلاع على تلك الأفكار التي جاءت من مجتمعات إنسانية مختلفة، لكنها موجودة في هذا الكون الواسع. وتلك الأفكار تُمكن من يطلع عليها على الأقل أن يعلم يقينًا أن هناك رؤى وتصورات مختلفة في هذا الكون.

وهذا بحد ذاته مقصد حقيقي لتغذية الذات الإنسانية بترقي فكري عميق يمكن أن يضفي على تلك الأرواح والذوات الإنسانية شيئا من التسامح والعقلانية وعدم الاندفاع بأي فكرة يمكن يقرأ عنها أو يسمعها، وأنها فكرةٌ الأصل فيها أنها ليست يقينية، وأن الأفكار تبدأ عند طرحها بأنها تحمل وجوها وتأويلات محتملة.

فاليقين في الرؤى والتصورات والتأويل والفهوم هو في آخر مراحل التصور العقلي والفكري، فالأصل في كل الأفكار والرؤى والتصورات أنها نسبية المأخذ وظنية المدرك فلا تصل الأفكار والتصورات إلى اليقين إلا بعد رحلة شاقة من العمليات الذهنية تتخلل تلك الرحلة توقفات عقلية وتأملية تُعطي النفس والذات الإنسانية متسعا من الوقت والزمان كي تتعلم أن ما تم تحصيله من علوم هو شيء بسيط جدًا من أصل الأفكار والتصورات، وهي بهذه التوقفات يتحصل لدى النفس والذات الإنسانية أنها لا تعلم كل شيء بل إنها لم تعلم إلا قدرًا يسيرًا فينمو لدى تلك النفس والذات الإنسانية حاجتها للتحصيل العلمي وحاجتها لفهم أعمق وأكثر، فلا تزال تتطلب حتى تُدرك أنها لم تُحط بالحقيقة اليقينية، وأنها لم تُخلق للحكم على الآخرين بل إنها خُلقت تلك النفس والذات الإنسانية كي تعمل وتُساعد على العمل، وتصبو إلى إدراك الأخلاق السامية وتتطهر من أدران وأوبئة النفس التي تجعلها تُسيء إلى الإنسانية بارتكابها أمراض الغل والحقد والكراهية، فلا يمكن لمجتمع من المجتمعات يتطلع إلى رؤى وتصورات التنمية أن يظل قابعا وممسكا بمسارات اليقينية المحضة فما لم يُسع إلى تفكيك تلك اليقينية فإن كل التطلعات سوف تبقى وهما لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع.