يصر البعض على أن ينزل غيرهم عند آرائهم المختلفة، ويظنون أن لهم الحق في ذلك، وهذا أمر إن لم يكن قد تجاوزه الزمن، فحتمًا سيتجاوزه ويتجاوزهم قريبًا جدًا؛ لأن الاختلافات داخل المعتقد الإسلامي الواحد، هي الأساس الذي قامت عليه المذاهب الفقهية والكلامية والفلسفية داخل الكيان الإسلامي.

الإمام أبو الحسن علي الماوردي -رحمه الله، من أهم الفقهاء الذين لهم إسهامات متميزة في الفكر الإسلامي، ألف في بدايات القرن الخامس الهجري كتابًا رائعًا سماه «نصيحة الملوك»، من أهم عباراته قوله: «كلام كل كتاب، وأخبار كل نبي، لا يخلو من احتمال تأويلات مختلفة، لأن ذلك موجود في الكلام بنفس طباعه.

ولا كلام أولى بهذه الصفات من كلام الله جلّ ذكره، إذ كان أفصح الكلام وأوجزه، وأكثره رموزًا، وأجمعه للمعاني الكثيرة، والأحرف اليسيرة.

ولابد في الدين من وقوع الحوادث التي يحتاج إلى النظر فيها، والنوازل التي لا يستغني العلماء عن استخراجها، وعن خبر يشكل معناه، وأثر تختلف التأويلات في فحواه، على مر الأيام، فإذا دفعوا إليه اختلفت الآراء في المسائل، وتفرقت الأهواء في النوازل، وصار لكل رأي تبع ومشرعون، وأئمة ومؤتمون، ثم مع طول الزمن ازداد لها أنصار ومتعصبون وأعوان ومحامون، فكان سببًا لاختلاف الأمم وانشقاق عصاها».

يصعب جدًا على صاحب البصيرة استيعاب إصرار البعض على «الوفاق» في مواضع «الخلاف»، ومن أهم ما ينبغي عمله لمكافحة وكبح هذه الاستماتات والإصرارات هو تبني مشاريع إنقاذية للتوفيق بين أصحاب الآراء المختلفة، وبناء عقول جماعية قادرة على استخراج أحكام مناسبة لكل جديد ومعاصر، ومتحررة في ذات الوقت من الانحباس حول منطوق النصوص، دون تدبر في مفاهيمها، أو انخراط في سلك العلماء الصادقين المخلصين، ولا يصلح أبدًا توغل الناس في جزئيات معتقدات الآخرين، والانشغال بها، والأصلح هو أن يضبط الإنسان نفسه على ما لا يضر بغيره، ويهتم بقضايا عامة، تناسب إرادة الإسلام، ورؤيته، وتتوافق مع مقاصد الشرع، والسياقات الكونية، والأبعادالشمولية، مع تجرد كامل من العصبيات والوصايات، واستيعاب لمختلف الرؤى والتصورات الفقهية والاعتقادية، ومع كل «مؤتلف»، وأي «مختلف»، وبما يراعي كرامات الناس، وعدم الدخول في خصوصياتهم وعلاقاتهم مع خالقهم -عز وجل.

الاختلافات التي سبق التحدث عنها أمور طبيعية ومتناغمة مع نواميس الكون، ومن يحاول إلغاءها يحاول عبثًا إماتة التجدد، وإغراق الناس في الرتابة غير المحمودة؛ ولأجل ذلك علينا أن ننزع من أذهاننا رغبة توحيد ميول واتجاهات البشر، وعلينا أن نزيد الثقة بعقولنا، وأن نشيع بين المتخوفين من عواقب الاختلاف؛ أن عيوب ذلك يحل بالتنوع والتعدد، وليس بالانغلاق على الذات، أو الرفض للغير، أو الزعم بأننا الدين، أو الظن بأننا أصحاب الحصانة، أو القادرون على الاستمرار في اتهام من حولنا في أفكارهم ونياتهم، وأخذهم بسوء الظن.

يقول سيدنا ابن المسيب -رضي الله عنه: «كتب إليَّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله، عليه الصلاة والسلام: أن ضع أمر أخيك على أحسنه، ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنَّن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملًا».