الحوارات ممتعة جدًا بالنسبة لي، خاصة إن لم أكن طرفا فيها، ففي كل مرة أحضر فيها حوارًا أجد كمًا هائلا من المعلومات، ولا أقصد معلومات عن موضوع النقاش، بل أقصد معلومات عن المتحدثين، فعندما نتحاور يتدفق ما بداخل عقولنا ليتضح ما نكّن فعلًا، فالحوار دائمًا يدل على صاحبه، ابتداء من طريقة الحوار إلى موضوعه وكل تفاصيله.

طريقة الحوار تختلف من شخص إلى آخر، فالبعض يتعصب ويفقد طوره ويتحدث بطريقة قاسية رغم صغر الموضوع وهذا قد يدل على أنه لا يستطيع امتلاك أعصابه، مما يشير إلى ضعف أو غضب مكبوت.

البعض الآخر يظهر بمنظر المستمع مع مشاركات بسيطة مفيدة، وغالبًا يدل ذلك على حكمة وصبر وعقل جميل، فالاستماع هو الذي يعلمنا وليس الحديث، والبعض تجده دبلوماسيًا يمتع الطرف الآخر ويقود مجرى الحديث دون أن يدرك أحد ذلك، وفي هذا جمال الحبكة.

طريقة الحوارات توضح الشخصيات غالبًا، والأسئلة التي تطرح هي فعلًا دليل العقول.

أحيانًا يُصْعَق الإنسان من الأسئلة التي تُطرح عليه، فبعضها شخصي جدًا وحساس، والتطرق إلى هذا النوع من الأسئلة منفّر جدًا، ويدل على قلة الوعي وقلة الذكاء العاطفي للسائل، فإن اعتقدنا أنه حق واجب على الآخرين إجابة أسئلة تخصهم ولا تخصنا بتاتًا، فهناك خلل في رؤية الحدود منا.

(كي تكون إنسانًا، ينبغي لقلبك أن يكون من السعة ما يجعله قادرًا على الإحساس بالناس في كل مكان).. إليف شفق.

يجب أن نركز في حدود الغير، وأن نستشعر تجاوبهم معنا، وألا نتطرق إلى أسئلة محرجة أو أسئلة لا تخصنا، فذلك إن دل على شيء، فسوف يدل على انخفاض حدسنا الاجتماعي وعلى علو الأنانية وفقدان الإحساس بالغير.

هناك جمال يشع من العقول التي تسأل عن مواضيع مهمة، تتطرق لأشياء بعيدة، وتجعلك تفكر معهم، وتُبحر في تفاصيل الموضوع، فتخلق فيك اهتمامًا لمعرفة بعض المعلومات والبحث عن الأجوبة، وتلك العقول مبهرة، فهي لم تتطرق للخلق وبساطتهم وحياتهم الشخصية، بل في داخلها آفاق وآفاق من المواضيع الجميلة التي تود أن تشارك رأيها بها، وتود أن تفهمها أكثر، ففضولها ارتقى بها عن الناس وعاديتهم، ووصل بها إلى ما يغير منها ويفيدها هي، فلا تحدها الحوارات أو المجالس للتطرق إلى ما لا يهم أبدًا.

كل الأسئلة التي سنسألها سنجد أجابتها في حياتنا عاجلًا أم آجلًا، فلنركز بالأسئلة التي نطرحها، وفعلًا نطرح ما ستكون إجابته مفيدة لنا، قرأت أنه في علم الأسئلة حتى الأهداف البشرية يساعد تحقيقها إن وُضِعت بطريقة أسئلة، مثلًا عندما نستيقظ في الصباح من الجميل أن نفكر ونردد (ما الخير الذي سنجده اليوم)، ذلك يبرمج العقل الباطني للبحث عن الخير والاستدلال عليه.

مواضيع النقاش التي نختارها أيضًا تفرق بين شخص وآخر، البعض يتداولون أخبار العالم، البعض الآخر يناقشون بعض الحِكم، والبعض يتحدثون عن العمل، وكل ما قد يطور من حياتهم، وهلم جرًا، وكل موضوع يدل على طارحه.

قبل أن نتحدث وفي أي حوار، يجب أن ندرك أن كل ما يخرج من أفواهنا لن يدل إلا علينا، حتى وإن تحدثنا عن الآخرين، سيدل ذلك علينا لا عليهم، يجب أن نكون أكثر وعيًا بكلماتنا، بأسئلتنا، بطريقة حوارنا، وأن نراقب أنفسنا حينها، وأن نتحكم نحن بعقولنا بكل ما يبدر منا من كلمات، وندير فن النقاش وفن الأسئلة بجمال.

حتى عند الحديث تختلف الشخصيات، فالبعض يتحدث ولا يسمع ولا يعطي فرصة للآخرين بالمشاركة أو التعليق، وذلك يوضح أنهم لا يدركون الواقع المحيط بهم، ولا يستشعرونه، ولا يدركون احتياجات الناس وقدراتهم وفي هذا خلل، فلا بد أن نوازن بين الحديث والاستماع وإلا لن يكون الموضوع نقاشًا أو حوارًا أو حديثًا، بل خطبة من طرف واحد، ولا أحد يريد أن يستمع إلى خطبة دون إذنه.

طريقة الحوار، مواضيع الحديث وأسلوبه، الأسئلة التي تطرح.. كلها أمور تختلف من شخص إلى آخر، وكلها توضح لنا شخصية الشخص وكفاءة عقله وطريقة تفكيره، فنعرف الفضولي من المثقف من غير المهتم من الفطن، فإن أردنا معرفة عقلية شخص فلننظر إلى اهتماماته ومواضيعه التي يفتحها، وأسئلته التي يطرحها، وطريقة حديثه، وهنا سنضعه في الدائرة المناسبة.

لنضع أنفسنا نحن أولا في الدائرة التي نريدها، ونترفع عن المواضيع التي لا تليق بنا، لنغوص في بحر الحوارات المجدية المفيدة، ونبعد عما لا يضيف لنا شيئًا.

لنرتقي عند الحوار، ونستمع عندما لا نملك ما نفيد به غيرنا أو ما لا علم لنا به ولا ندعي المثالية، ونسأل فقط الأسئلة التي ستفيدنا وتفيد من أمامنا، فنحن لا نريد أن نبدي عن أنفسنا صورة سيئة، وكلماتنا هي أول ما يستخدم في الحكم علينا.

في الأفلام يقول أحد أفراد الشرطة عند القبض على المتهم (كلماتك التي ستنطق بها ستمسك ضدك في المحكمة) وهذا هو قانون الحياة كلماتنا غير مستردة وستكون إما لنا وإما علينا.

(الكلمات الوحيدة الجديرة بأن توجد هي الكلمات الأفضل من الصمت). إدواردو غاليانو