مبارك الوصول لعبادة الصوم، التي هي من أهم العبادات القديمة، حيث فرضها الله تعالى على الأنبياء وأممهم من أهل الكتاب، «اليهود والنصارى»، وشرعت أحكامه ومواقيته، من بعد سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء، عليه الصلاة والسلام، ولا تكاد أي ديانة أو أي معتقد يخلو منها، بطريقة أو أخرى، يقول الحق، سبحانه وتعالى، في الآية 183 من سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

قررت أن أجعل مقالي الرمضاني هذا جولة فيما قدمت ذكره، وأخص الديانتين اليهودية والمسيحية، بغية أن يكون مادة صالحة لـ«التعارف»، و«التسامح»، و«التفاهم»، و«التحالف»، وأبدأ بالديانة اليهودية أولى الديانات، فبحسب كتاب «التوراة» يجب الصوم في اليوم الذي نزل فيه سيدنا موسى، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، من «سيناء» للمرة الثانية، ومعه ألواح الشريعة، ويسمونه يوم «كيبور»؛ أي الغفران، ووقته في اليوم العاشر من التقويم اليهودي، على الأغلب، في أواخر الشهر السابع أو أوائل الشهر العاشر من التقويم الميلادي.

ويبدأ الصيام مع غروب الشمس حتى حلول الظلام في اليوم التالي، مدة 25 أو 26 ساعة تقريبًا متواصلة، ويعدونه أقدس الأيام الدينية، وفيه يتركون الطعام والشراب والتنقل والاغتسال، وكافة ملذات الحياة، ويتفرغون للعبادة، ومحاسبة النفس، وطلب المغفرة من الله، والمتدينون يذهبون قبل الصوم إلى حائط البراق، المعروف عندهم بالمبكى، لأجل الصلاة، ومن قواعد صومهم أنه لا صوم أيام السبت، أو في أيام المهرجانات أو الاحتفالات الدينية، أما يوم الغفران فهو استثناء، وكذلك لا صوم في شهر نيسان، أو لأصحاب الأعذار، وهناك صوم تطوعي يصومه من يريد أن يصل إلى الله تعالى، بحسب النية التي يريدها.

أما الصوم عند المسيحيين فهدفه كذلك؛ التقرب إلى الله طلبًا للمغفرة والمحبة والتقرب منه سبحانه، ففي سفر «دانيال» المشهور مذكور هناك: «فوجهت وجهي إلى الله السيد طالبًا بالصلاة والتضرعات وبالصوم والمسح والرماد»، وللصّوم عندهم مكانة كبيرة، ويعدونه ارتباطًا روحيًا والتزامًا وإيمانًا بتعاليم سيدنا عيسى، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وليس للصوم عندهم وقتًا محددًا ثابتًا، وتقوم كل طائفة أو كنيسة بتحديد موعد الصوم لأتباعها، وتحدد الكنيسة موعد الصوم قبل عيد «الفصح»، المعروف بعيد القيامة، بأربعين يوماً، وزمنه متنقل، وعادة في أواخر الشهر الثالث أو الرابع الميلادي، وحسب تقاليد كل كنسية، كما أنه لا توجد طريقة محددة للصوم، وهذا ملحوظ في الاختلافات بين الطوائف المسيحية، حول هذا الأمر، وعادة يمتنعون عن تناول الطعام مدة 12 ساعة في اليوم على الأقل، من بداية اليوم وحتى انقضاء المدة، وهناك من المسيحيين من يصوم وقتًا أطول.

أختم الجولة، بذكر أن الصوم شعيرة دينية مهمة في جميع الأديان الكبيرة في العالم، وهو وإن اختلفت طقوسه وتقاليده من دين لآخر، إلا أن أهدافه الدينية والروحية متشابهة، ومن أهم ذلك اكتشاف العلاقة مع الخالق سبحانه وتعالى، واكتشاف أبعاد جديدة في حياة الإنسان، وهو ما يؤكد أن الصوم ظاهرة فريدة، وتجربة ثمينة، منطلقها الإرادة الذاتية، والتصرف الحر، والقناعة الصادقة..

اللهم سلمنا لرمضاننا، وسلمه لنا، وتسلمه منا متقبلًا.