منذ سنوات ليست بالقليلة والتي تخطت نحو 14 عاما لم يحدث أن كانت هناك دراسة حضورية في شهر رمضان الكريم، وجاءت جائحة كورونا لتفرض الانقطاع عن الحضور الدراسي قرابة عامين والتعويض بالدراسة عن بعد، حتى عادت الدراسة تدريجياً إلى طبيعتها الأصلية مع بداية العام الدراسي لهذا العام الذي شهد بداية الانتظام الحضوري إلى حد كبير مع استمرار في دراسة بعض المقررات عن بعد للمرحلة الجامعية في بعض الجامعات.

جاء الشهر الفضيل كجزء من الفصل الدراسي الثالث بناء على ما استحدث في نظام الدراسة «ثلاثة فصول» في التعليم العام، وبدأ في التنفيذ قبل أن تأخذ دراسة النظام وقتها الكافي من التمحيص في تطبيقه لمختلف المراحل سواء في التعليم العام أو الجامعي الذي ما زال يتخبط في تصحيح خططه ومقرراته بناء على التغيير المطلوب.

هناك أنظمة للتعليم تختلف من بلد لبلد، فما يثبت نجاحه في دولة لا يعني بالضرورة نجاحه في غيرها، وما قد يخفق في دولة لا يعني بأنه خطأ أو غير صالح لغيرها، لاعتبارات تربوية واجتماعية لا بد أن تؤخذ في الحسبان، ولظروف متباينة تعيشها الدول، سواء في مستوى ما حققته في مسيرتها التعليمية من جودة وعطاء وتقدم، أو في أسلوب وطريقة إدارتها للعملية التعليمية، أو في ظروفها الاجتماعية وما تؤمن به من قيم وما يحكمها من عادات وتقاليد تنظم المجتمع وتوجهه بناء على موروث ثقافي وديني، بما يميزها عن غيرها من المجتمعات بسمات تلائم ثقافتها وقيمها.


رغم أنني وكثير من جيلي وأجيال بعدنا، ممن درسوا في رمضان دراسة نظامية لسنوات، كان الأمر معتادا لا غرابة فيه أو رفض للدراسة الحضورية استناداً لفضل الشهر.

بينما الأمر الآن مختلف إذ تجد الرافضون أكثر من المؤيدين، لعدة اعتبارات أهمها:

إن النظام وتطبيقه جاء بعد انقطاع عن الدراسة الحضورية لسنتين خلال جائحة كورونا، علاوة على أن ما سبق ذلك بسنوات ليست بالقليلة، لم تكن هناك دراسة في رمضان إطلاقاً باستثناء الفصول الصيفية في بعض الجامعات، وعليه جاء التنفيذ ثقيلاً على الطلاب وعلى القائمين بالعملية التعليمية.

كانت الدراسة في رمضان - سابقاً - مقبولة لأن الظروف الاجتماعية كانت مساعدة، لم تكن الفضائيات والإعلام المفتوح طول اليوم، ولم يكن هذا التطور في وسائل الاتصالات والنقل بجميع مكوناته، والذي أسهم جميعه في تغيير كثير من نظام الحياة الاجتماعية السائدة اليوم، وأخرجها من بساطتها إلى فضاء مفتوح بصفة مستمرة وبكل تقنياته ووسائله التي يحملها، والتي تستهدف الأجيال بكل فئاتها العمرية وتطلعاتها وأذواقها، وبمختلف طبقات المجتمع ومستوياته الثقافية والاجتماعية.

التغيير العميق الذي شمل الإعلام والاتصالات وتقنياتها وانتشارها، تَضخّم ليطغى على مكونات المجتمع؛ أثّر في أسلوب وطبيعة الحياة الاجتماعية، ازدادت وتيرة التواصل بين أفراد المجتمع، أصبح السهر للفجر جزءا من عادة بعض الناس، بل امتد التأثير إلى الأسواق وغيرها من متطلبات الحياة اليومية التي أصبح الكثير منها يفتح حتى وقت متأخر من الليل وبعضه لا يغلق! في ظل هذا التغيير والتأثير الذي استجد ويتزايد ما بين يوم وآخر، وطغى على فئات المجتمع ومقدراته؛ من الطبيعي أن يمتد تأثيره ليشمل الأفراد والأُسر ليغير من عاداتهم ونظام حياتهم.

وفي رمضان يزداد زخم هذا التأثير مع ما يصحب الشهر الكريم من نشاط إعلامي مضاعف وزيادة في الفعاليات المصاحبة، علاوة على ما يتطلبه من عبادات تزيد من صعوبة انتظام الاستيقاظ مبكراً، ناهيك عن إمكانية التركيز في الاستيعاب والالتزام بالحضور للدراسة.

تضمن نظام الفصول الثلاثة عددا غير قليل من الإجازات المتقطعة، سواء الممتدة لنحو أسبوع أو عشرة أيام، أو إجازة نهاية الأسبوع الطويلة، وهو ما تطبقه الدول التي تنفذ هذا النظام بما يناسب ظروف بلادها؛ لكن عند تنفيذ النظام ذاته عندنا، كان من «الأفضل» مراعاة فروقات الظروف الاجتماعية والقيم الدينية التي تميزنا عن غيرنا، وعليه كان من الممكن اختزال بعض أيام الإجازات لصالح رمضان، بحيث نقلل من عدد أيام الحضور الدراسي في الشهر إلى أسبوع فقط، ليستمتع الجميع بروحانية الشهر وشعائره، وليعيش الجميع متعته الاجتماعية، وليكون هناك انتقال تدريجي ما بين الانقطاع التام عن الحضور، وبين الالتزام بالحضور لقرابة نهاية الشهر الكريم.

تخفيض عدد أيام الحضور في رمضان، لا يعني إلغاء الدراسة تماماً ولا يُقصد به أن الصيام يمنع مزاولة الأعمال أو يقلل من كفاءتها، فذلك مرفوض تماماً، خاصة أننا مقبلون على حقبة مختلفة من التغير المناخي والذي سيكون فيه الطقس خلال رمضان معتدلا أو باردا؛ ولكن يُقصد به تقليل عدد أيام الحضور قدر الإمكان، بما لا يؤثر في جودة العملية التعليمية، بتنظيم توزيعها طول العام الدراسي، بحيث تختزل أيامها في رمضان، وفي ذلك تقدير واحتفاء بالشهر الفضيل، وتعزيز لقيمته المعنوية والدينية عند الأجيال القادمة بما يشعرهم بخصوصيته وتميزه عن غيره من الشهور.