ليس هناك (أو هنا)، من هو أخطر من رجل الدولة الذي يتصرف وكأنه صاحب مزرعة..والأخطر من هذا هو أن يكون المذكور مدرّعا بصلاحيات تمكّنه من التحكّم بأسلحة كثيرة من ضمنها وعلى رأسها تلك الخاصة بالدمار الشامل.

الأولى صعبة من حيث المبدأ والثانية أصعب من حين الاحتمالات، أي أن يكون صاحب السلطة غير معني بتراتبيتها وبقضائها وقوانينها، ويعتبر نفسه فوقها كلها وتحت السماء بقليل. ثم أن يكون ضيّق الخلق والصدر ولا يضع في حسابه أي قيمة لمؤسسات رقابية دستورية أو نقابية أو ذات صلة بالبنى المدنية المألوفة في عالم اليوم، مثل الإعلام أو منظمات حقوق الإنسان أو الجمعيات المعنية بمراقبة الحوكمة وفرزها بين رشيدة وجائرة.

وهذا أمر نمطي في بعض عوالم آسيا وإفريقيا وأمريكا الوسطى والجنوبية. وبعض تجاربه في دنيا العرب والمسلمين أنتجت كوارث مدمّرة ومعمّرة! من طهران إلى بغداد إلى طرابلس الغرب إلى دمشق وسواها.

الحالة الثانية الأصعب أو الأخطر هي تلك المتصلة بامتلاك ألدولة المعنية أسلحة الدمار الشامل مثلما هو الحال مع روسيا بداية ومع كوريا الشمالية تتمة. والدولتان أدخلتا «المزاج الشعبي» العام، على وسع الكرة الأرضية، في مناخات الاستعداد لاحتمال استخدام القوة الإفنائية في حروب تقليدية للمرة الأولى في التاريخ!

عندما قصفت الولايات المتحدة الأمريكية اليابان بالقنبلتين النوويتين في عام 1945 لم يكن غيرها يملك ذلك السلاح! ولم يكن غيرها يتحكّم بتقنية تصنيعه وإنتاجه. والمفارقة كمنت آنذاك في كون عقول الهندسة الفيزيائية النووية التي استندت إليها واشنطن، كانت عقولا ألمانية بالدرجة الأولى!

حينها أسقطت القنبلة على هيروشيما وناجازاكي لإفناء العنصر البشري فيهما، لكن من أجل تحقيق هدف «أسمى» هو إنقاذ البشرية من الاستمرار في أشنع حرب واجهتها في كل تاريخها المعلوم! وكانت تلك الضربة الأولى التي أنهت مذبحة الحرب العالمية لكنها فتحت الباب أمام سباق من النوع ذاته بين القوى المنتصرة، وتحديدا بين الأمريكيين والمعسكر الغربي من جهة والسوفيات والمعسكر الشرقي (الذي ولدته الحرب ذاتها) من جهة أخرى.

ولم تكن أطول مرحلة سلمية في تاريخ أوروبا أساسًا والعالم برمته تاليا، التي امتدت منذ انتهاء الحرب العالمية إلى اليوم، سوى نتاج الرعب النووي المتوازن في ضوء وصول الروس إلى تقنية التصنيع والإنتاج بعد سنوات قليلة من وصول الأمريكيين.

كانت الحرب الباردة بديلا وحيدا عن الحرب النووية أو الإفنائية، قاتلت القوى الكبرى بعضها بالواسطة وليس بالمباشر. وعمرّت نفوذها أو قيمها من خلال التدخل في نزاعات وحروب ذاتية الأسباب في مطارح كثيرة، ومفتعلة من طرفي المعسكرين الشرقي والغربي في مطارح أخرى. وأخذت تلك المواجهات أشكالًا متعددة وعناوين متفرقة (حروب أهلية وثورات وانقلابات) لكنها كلها في جملتها لم تخرج عن مندرجات المواجهات العسكرية «التقليدية» أو الكلاسيكية.

وحدها أزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962 كادت أن تخرج عن عاديات مواجهات وحروب تلك المرحلة ووصلت إلى ذروة «التحضير» للاحتمال الأسوأ، والأخير! أي المواجهة المباشرة بين الأمريكيين والسوفيات. ولولا «العامل النووي» لوقعت تلك المواجهة ربما ولاستمرت على مدى سنوات وشملت كل مواقع نفوذ الطرفين في أوروبا وآسيا وبعض إفريقيا وبعض أمريكا اللاتينية!

كانت تلك مرحلة وانتهت في تسعينيات القرن الماضي مع إنهيار المعسكر الشرقي بدءًا من مركزه في موسكو.

وكان التوازن النووي بهذا المعنى صمام أمان منع تراكم أسباب المواجهات بداية قبل أن تنضج الدوافع الذاتية لانكسار أحد الطرفين من دون إطلاق رصاصة واحدة! كان العالم يلاقي حلما وقد تحقق! ويعد نفسه بمرحلة ما كانت لتخطر على بال أكثر العقول تفاؤلا وعباطة! بل هناك من ذهب إلى مقولة نهاية التاريخ، واستواء البشر على سوية واحدة أساسها النظام الديموقراطي واقتصاد السوق! ما فعلته حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا هو إنعاش محاولة ارتداد إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، لكن مع السلاح النووي!

وأخطر ما في ذلك هو التلويح بميني حرب نووية! أي باستسهال طرح فرضية استخدام ما سمّاه بوتين أكثر من مرة: قنابل نووية «تكتيكية» في حرب تقليدية، أي رمي قنابل «صغيرة» كفيلة بإفناء «منطقة جغرافية» محدودة! وهذه صارت ممكنة الإطلاق بواسطة مدفعية عادية أو صاروخ قصير أو متوسط المدى! أو بواسطة طائرة حربية كلاسيكية! وربما لو لم يعلن الغرب استنفاره التام ضد بوتين، وإشهاره كل استعداداته لمواجهة ما يفعله في أوكرانيا لذهب سيد الكرملين إلى ذلك القرار! وارتاح من ضنى المواجهة التقليدية التي كلفته وستكلفه ما لم يكن في حسبانه!

لكن سيد الكرملين قطع الخطوة الأولى باتجاه «تحضير» العالم نفسيا لذلك الاحتمال، وإن «اكتشف» محدوديته في عوالم ردع الأعداء وإرهابهم! وعقم استخدامه للابتزاز في سوق مقايضات لا وسطاء فيها، بل هي لمن يبتزهم أو يحاول ابتزازهم قضية موت أو حياة وليس أقل من ذلك!.

استيعابه رسالة الرد على تلميحاته وابتزازه أرجعه ربما إلى شيء من الواقعية ميدانيا لكنه لم يخرجه من الورطة المصيرية التي أدخل نفسه وبلاده فيها: استعادة الماضي تعني له استعادة الإمبراطورية المؤودة لكنها بالنسبة للغرب هي استعادة لمناخ مواجهة وحصار «ستار حديدي» صارت حدوده أبعد ما تكون عن حدود تلك الإمبراطورية!، لم يتمكن من تطويع أوكرانيا ولن يتمكن من مواجهة الحصار الغربي الذي يتشدد وسيتشدد يوما تلو يوم، بل لن يستطيع «العودة» إلى موسكو مدججا بالخزي والخراب، وفي الوقت عينه لن يستطيع (منطقيا) اللعب بالأزرار النووية، لا التكتيكية ولا الإستراتيجية إلاّ إذا صار مع النخبة المحيطة به من أنصار إعادة إحياء الجماعة «القياومية» التي سعت في روسيا بين أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين لتعجيل «يوم القيامة» من خلال إخصاء أتباعها!

ورطة أوكرانيا ورطت العالم كله بأزمات لا تني تتناسل وتتمدد باتجاه كل مساحات العيش ومتطلباته ...وفي ذلك ربما بعض العزاء لبوتين الأوراسي الباحث عن ثأر من الغرب وقيمه ونظمه ومستوى عيشه ورفاهه وتقدمه.

ومثله في كل حال مثل أضرابه في طهران وبيونغ يانغ، يجد في الفناء عزاءً!

* ينشر بالتزامن مع موقع لبنان الكبير.