«الحسبة» لفظا، مصدر يعني احتساب الأجر على الله. وقد ورد اللفظ نصا في بيت النابغة الذبياني «الشاعر الجاهلي» إذ قال:

فكملت مائة فيها حمامتها.. وأسرعت حسبة في ذلك العدد

«وأصل اللفظ من الجذر اللغوي حسْب بمعنى الكفاية، وحسَب بمعنى الفعال الصالح، وقيل إن الحسبة هي القيام على الشيء بإصلاحه وتربيته.

ويستعمل مصدر اللفظ: «مُحْسبة» بمعنيين: الحَسب، وهو الشرف، والحسْب وهو الكفاية. وفي هذا الاستعمال المزدوج يقول عروة بن الورد، الشاعر الجاهلي:

ومُحسبة قد أخطأ الحق غيرها تنفس عنها حينها، فهي كالشواء

وفي القرآن الكـريم ورد لفظ حسب بمعنى الكفـاية" يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين، وكفى بالله حسيبا، حسبي الله "،حيث يعني لفظ حسبك: يكفيك، ولفظ حسيبا: كافيا، ولفظ حسبي: يكفيني.

ولفظ الحسبة هذا انتهى في التاريخ الإسلامي إلى نظامين مختلفين وإن تشابها في الجذر اللغوي: حسب، أحدهما نظام المحتسب، وثانيهما دعوى الحسبة.

ليس من الصواب أن يحكم أحد على أوضاع الماضي بمعايير الحاضر، أو أن يقيم أحداث مجتمع مضى، بما انتهت إليه الأوضاع في المجتمعات المعاصرة.

فعند النظر إلى المجتمع الإسلامي الأول، في عصر التنزيل وعهد النبي، يتعين استرجاع الصورة في ذلك الوقت، واستعادة الهيئة الاجتماعية آنذاك، دون إنزال الأوضاع المعاصرة أو إسقاط المفاهيم الحديثة على مجتمع لم يعرف عنها شيئا أو يدرك لها معنى.

وأهم ما في ذلك أن الجماعة (أو الأمة) الإسلامية، في عصر التنزيل وعهد النبي، كانت تختلف اختلافا جذريا عن الجماعة (أو الأمة) في العصر الحالي، ففي عصر التنزيل وعهد النبي، لم تكن هناك دولة بالمعنى الحديث لمفهوم الدولة - ولم تكن ثمة أجهزة للحكم، سوى النبي (صلى الله عليه وسلم) وسلطته الدينية المستمدة من القرآن الكريم، وهي سلطة محدودة وولاية مرسومة، تقتصر على شؤون الدين وما يتصل به من تنظيم الجهاد، وجمع الصدقة، والتحكيم بين الناس إن لجأوا إليه وقبل هو ذلك، وما ماثل هذه التصرفات.

وفيما عدا هذا، لم تكن هناك وزارات أو وزراء لإدارة شؤون الجماعة، فيما يتعلق بالزراعة والصناعة والتجارة والتموين والتربية والتعليم والإعلام والشرطة والقضاء والري وما شابه.

بل إنه طوال عهد النبي لم ينشأ جهاز منظم للشرطة ولا سلطة محددة للقضاء، وإنما بدأت الشرطة في عهد أبي بكر الصديق، بصورة متواضعة، كانت تسمى العسس ثم أطلق عليها اسم الشرطة في عهد علي بن أبي طالب.

آنذاك كانت جماعة المؤمنين تتضامن بصورة طبيعية في إدارة شؤونها، وفي تنفيذ العقوبات التي يقضي بها النبي، ولذلك فإن الخطاب القرآني لم يوجه إلى سلطة محددة أو إلى إدارة معينة أو إلى شخص بذاته، وإنما كان الخطاب دائما إلى جماعة «أو أمة» المسلمين.

مثال ذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون، فالمسلمون جميعا كانوا في ذلك الوقت مدعوين إلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر وإلى الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما على هذا المنهاج.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا الصدد، هو الحكم الذي يفصل ويحدد - إذا ما حدث خلاف - بين الحق والباطل، بين الصبر والعجل، بين الخير والشر، بين المعروف والمنكر.

فيما بعد، وعلى نحو ما سلف، أنشئ جهاز متواضع للشرطة في عهد أبي بكر (632 - 634م) كان يسمى العسس، ثم أطلق عليه اسم الشرطة في عهد على بن أبي طالب (655 - 660م).

وفي عهد عمر بن الخطاب (634 - 644م) بدأت مهام الخليفة تمتد وتتشعب فندب امرأة تسمى الشفاء للإشراف على سوق المدينة (يثرب)، كانت مهمتها تتعلق بإفراز المبيعات، كالتطفيف في الكيل، أو البخس في الميزان، أو الغش في البيع، أو التدليس في الثمن.

هذا العمل كان ولاية من ولاية الحاكم (الخليفة، فالحاكم ندب شخصا لأداء بعض وظائفه ومهامه التي كان من أبرزها آنذاك مراقبة الأسواق وملاحظة ما يتم فيها من بيع وشراء، وإذ كان المندوب لهذا العمل لا يقتضي أجرا، ولا يعد صاحب وظيفة، فقد رئي أنه يؤدي عمله حسبة لوجه الله، فالله حسبه فيما يفعل دون أجر، ومن ثم قيل إنه المحتسب، وهي تسمية تستدعي ما كان قد قيل في الشعر من قبل:

وأسرعت حسبة في ذلك العدد، ومحسبة قد أخطأ الحق غيرها.

وعندما أقيمت الدولة الأموية (661 - 750م) ثم الدولة العباسية (750 - 1258م) زادت وظائف الدولة وتشعبت.

وفي العصر العباسي بالذات، بدأ يظهر التخصص في بعض الأعمال، فنشأت بعد الخليفة والوزير والحاجب ثلاث سلطات، تتوزع بين القاضي ووالي المظالم والمحتسب.

القضاء يختص بالفصل في الخصومات وقطع المنازعات.

وولاية المظالم عمل يختلط فيه القضاء بالتنفيذ، ويعرفه بعض الفقهاء بأنه «قود (قيادة) المتظلمين إلى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة».

فهو من ثم عمل يركن فيه إلى السلطان أكثر مما يعتمد في إقراره إلى الحق. والحسبة نظام يستهدف محاربة الانحراف، وتتبع المخالفات، قصد تطهير المجتمع منها وتجنيبه آثارها.

وكان يتولى أمر الحسبة محتسب يعينه السلطان، ومن ثم صار عمله ووظيفته، ضمن سلطات الدولة. وإذ كان يتقاضي أجرا، أو راتبا، من الدولة، فإن اسمه (المحتسب) لم يعد ينصرف إلى المعنى الأصلي الذي يفيد أداء العمل دون أجر، حسبة لوجه الله، بل صار اللفظ يعني أنه ينفذ أوامر الله، أي أنه يبتغي من عمله تحقيق الوصايا الدينية.

وتحددت اختصاصات المحتسب في إفراز المبيعات في الأسواق، كالتطفيف في الكيل، أو البخس في الميزان، أو الغش في البيع، أو التدليس في الثمن.

وهي نفس الاختصاصات التي بدأ بها نظام المحتسب في عهد عمر بن الخطاب. وكان عمل المحتسب مشروطا بأن يقتصر على ظواهر المنكرات، بحيث لا يكون له أي حق في سماع الدعاوى أو تحقيقها أو الفصل فيها، على اعتبار أن مثل هذا العمل إما أنه يدخل في ولاية القاضي أو يقع ضمن سلطة والي المظالم. ونتيجة للوصف الديني الذي انتهى إليه أمر المحتسب، في العصر العباسي، فإن الفقهاء بدأوا في وضع تعريفات لعمله، تنبني أساسا على الوصف الديني وتستند إلى القاعدة الدينية المتعلقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي ذلك قيل عن عمل المحتسب إنه «وظيفة تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وإنه «الحكم بين الناس فيما لا يتوقف على الدعوى»، وإنه «الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله».

نظرا لهذا التأسيس الديني، وللخلط الشائع في العقل الإسلامي بين الشريعة: وهي الطريق إلى الله بما نزل منه، والفقه: وهو ما صدر عن الناس من آراء وأحكام وفتاوى، فقد جرى الظن - خطأ - بأن نظام المحتسب نظام شرعي، هو من صميم الشريعة الإسلامية، وأن عدم إيجاده وعدم نصبه، يعد نقصا من سلطة الحكم وتقصيرا من المجتمع الإسلامي، يؤخذ عليه ويدعو إلى العمل على تغييره، إن عرفا إن أمكن، وإن عنفا إن لزم. يضاف إلى هذا أن نظام المحتسب، كما هو الشأن في دعوى الحسبة على ما سوف يلي، لم يرد لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية، وإنما هو على ما سبق الإلماع إليه، من ترتيب الساسة وعمل الفقهاء، فهو من ثم نظام بشري وعمل إنساني، لا يعد من الدين ولا يعتبر من الشريعة وإنما هو فقه الناس وإفراز المجتمع.

1996*

*كاتب وقانوني مصري» 1932- 2013"