مصطلحان هامان ينبثقان من أصل حقائق الدول وتأريخها من خلال ما مر من الأزمنة في القرون الماضية، وهذان المصطلحان هما الأساس الشرعي والنظامي (القانوني) لكل عمل تقوم به الدول وذلك تأصيلاً وتعميقاً لمسألة الشرعية والنظامية (القانونية) التي تسبغ الصحة والسلامة لكل أعمال الدول، والمصطلح الآخر هو الاستقرار والثبات المحقق للأمن والأمان الذي دونه لن تقوم لأي دولة أو مجتمع أية قائمة، فأما التأسيس الشرعي والنظامي للأعمال فقد توارد فقهاء هذه الأمة منذ قديم الزمان على أن أي تعامل أو فعل يصدر من الأفراد أو الجهات ذات الطابع الذي يمس الحاكم ودولته أن يكون له أساس شرعي يُحقق له أصل وجودة، ويضمن له صحة وقوعه وعدم بطلانه مما يُضفى قبولاً لهذه الأعمال لدى عامة الناس، وهذا ملاحظ بكثرة عندما يُحقق الفقهاء وعلماء الأمة في أن الأساس الشرعي لفريضة طاعة ولي الأمر مثلاً هو النص الشرعي والإجماع الذي لم يُخالف فيه أي أحد ممن له نظر في علوم الشريعة ومقاصده، فلا شك أن التأسيس للدولة يرتبط ارتباطا وثيقاً بمسألة وجوع الطاعة وعدم المنابذة للحاكم الذي بسط نفوذه على مملكته، بل إن الفقهاء جعلوا هذه الطاعة من أوجب الواجبات وذلك كي يتحقق الاستقرار والأمن والأمان، لذا فإن المصطلحان الأساس الشرعي والاستقرار لهما ارتباط وثيق في هذه المسألة، وهي تحقيق السمع والولاء للدولة حتى لا يختل الأمن والاستقرار.

ثم إن مسألة البيعة لولي العهد لا شك أنها أصيلة ومتأصلة في عمق التأريخ الإسلامي فمنذ العهود الأولى للدولة الإسلامية قد ترسخ مفهوم البيعة لولي العهد، وذلك حفاظاً لاستقرار ومرونة انتقال الحكم من السابق إلى اللاحق من الملوك والولاة والخلفاء في محيط الدولة الإسلامية، وتأكيداً لزرع الأمن وبسط الأمان في قلوب ومهج أفراد مجتمعات الدولة الإسلامية، وكانت فكرة عقد البيعة لولي العهد بوجود ولي الأمر والحاكم ابتكارا وإبداعاً في الفكر السياسي، وقد تعاقبت الدول والحكام على فكرة البيعة لولي العهد حتى عصرنا الحاضر، وقد درج الفقهاء والمحققون الذين ألفوا في كتب السياسة والحكم على تأصيل فكرة البيعة لولي العهد، فهذا إمام الدنيا الأصولي المحقق الجويني يُقعد ويؤصل هذه المسألة، ويقول (وأصل تولية العهد ثابت قطعا مستندا إلى إجماع حملة الشريعة، فالمقطوع به أصل التولية فإنه معتضد متأيد بالإطباق والوفاق والإجماع الواجب الأتباع، وفي الإجماع بلاغ في روم القطع وإقناع)، وقال الماوردي (وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله، فهو مما انعقد الإجماع على جوازه، ووقع الاتفاق على صحته لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما: أحدهما ـ أن أبا بكر رضي الله عنه عهد بها إلى عمر رضي الله عنه، فأثبت المسلمون إمامته بعهده، والثاني ـ أن عمر رضي الله عنه عهد بها إلى أهل الشورى فقبلت الجماعة دخولهم فيها، وهم أعيان العصر، اعتقاداً لصحة العهد بها). فولاية العهد هي أن يعهد الحاكم إلى شخص بعينه أو بواسطة تحديد صفات معينة فيه، ليخلفه بعد وفاته، سواء أكان قريباً أم غير قريب، وقد رأى الفقهاء جواز انعقاد الإمامة بولاية العهد أو بالإيصاء إذا توافرت في ولي العهد شروط الحكم، وتمت له البيعة من الأمة.

فهي إذن بمثابة ترشيح من قبل ولي الأمر الحاكم، وبهذا تنقطع حجة من كان ولا يزال يُشكك في طريقة انعقاد تولية نائب الحاكم أو ولي العهد، وهذا التشكيك ما هو إلا استصحاب لكفر التمرد وحب النزوع لزعزعة المجتمعات باقتحام الصعاب أمام العامة ونشر مثالب ولي الأمر أو الحكام للنيل مما يعملونه في سياساتهم، وهذه الطريقة على مر العصور لم يجن منها أصحابها إلا الدمار والخراب والقتل والتشريد، والوقائع في التدليل على ذلك كثيرة جداً، بيد أن هناك واقعة وقعت في دولة الأندلس في عهد الحكم بن هشام بن عبدالرحمن الداخل، وقد كانت تلك الواقعة بسبب كثير من التذمر والتململ من قبل بعض الفقهاء الذين جروا وراءهم العامة الغوغاء، فأحدث أولئك الفئام ثورات في البلاد، ومنها فتنة الربض في عام 189، فخلعوا الحكم بن هشام فقُتل بعض العلماء مع عدد كبير من الأعيان وصُلبوا وفر بعضهم ونجا ثم عُفي عنهم، بل إن هذه الفتنة كان سبباً في أن تخسر دولة الأندلس إقليماً مهماً جداً وهو إقليم برشلونة، وذلك بسبب انشغال الحاكم بوأد الفتنة الداخلية، وامتدادا لتوافق الدولة السعودية الدائم مع التأصيلات الشرعية ومراعاةً للوقائع التأريخية ومواكبة لما يستجد في العصر وحفاظاً على أمن واستقرار البلاد، فقد أصدرت الدولة نظام هيئة البيعة الذي قرر فيه نظام الحكم وقد أصل تأصيلاً مفصلاً وجود وشرعية ولاية العهد، ومن خلال هذا النظام جاءت شرعية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حيث كان خير اختيار من قبل خادم الحرمين الشريفين لملء هذا المنصب الذي زخر بكثير من الإنجازات والقفزات التأريخية التي ذللت كثيرا من الصعاب التي كانت حجر عثرة أمام تقدم وتطور الدولة.