الحمد لله حمدًا لا نفاد له، ولا منتهى لحده، ولا حساب لعدده، ولا انقطاع لأمده على أن بلغنا الوصول لشهر رمضان، والاستمتاع بتنزلاته وبركاته وفيوضه، ونسأله عز شأنه أن يكتبنا فيه من المقبولين والموفقين، وأن يعيدنا إلى جمال وجلال أيامه ولياليه.

موضوع اليوم الأخير من شهر الخير، وبعد تعمق لا بأس به في الحال والمآل، قررت أن يكون حول أهمية إعمال العقول في الجمع بين التطبيقات العملية والتأصيلات النظرية، ولا سيما أن التحولات التي نحياها متنوعة ومتسارعة، ويحيط بجوانبها بعض الجمود في الفكر مع كثير من التطرف في التفكير، وأكثر منه في الجهل بالعام من الأمور، كذا الخاص منها، خاصة أن مستجدات الواقع الراهن لا تكاد تتوقف، والإشكالات المتعلقة بمدى إمكان وصلاحية تطبيق الأحكام الشرعية تتكاثر، والسبب يعود في غالبه إلى عدم إدراك الواقع الراهن من جهة، وإلى عدم فهم الأبعاد الشرعية للأحكام المختلفة من جهة أخرى.

بعض المهتمين بالمعارف الشرعية ينقصهم، وبكل صراحة، استيعاب «النظرة الشمولية» للأحكام الفقهية، ولا يبذلون الجهد من أجل ذلك، ويتجهون لهذا السبب إلى أفهام خاصة بهم، مع أن المجالات الحياتية اليوم تحتاج إلى تجميع أفهام الغير، ومدارسة الجزئيات المختلفة، للوصول إلى قناعات عامة، وخير مثال على ذلك ما يسمى في الفقه «جهاد الطلب»، الذي كان في وقت لم تكن فيه معاهدات بين الدول، ولم تكن الدعوة إلى الله ممكنة إلا به، ولم تكن هناك أسلحة ذرية أو نووية.

اليوم التبست مصالح الناس بالمفاسد الممكنة والمتوقعة؛ فما عادت هناك مصلحة دون أن تكون مخلوطة بمفسدة، والعكس صحيح، والعبرة، كما يقولون، لمن غلب، أو بما غلب، وبشكل أدق لمن ملك وعيا جعله أكثر إدراكا لواقعه، ولو أدى ذلك إلى تأخير بعض الأحكام والحدود، أو حتى تعطيلها، في حال كان الإصرار عليها سيؤدي لمفسدة أكبر وأشمل. وكما ورد في الأثر: «ادرَؤُوا الحدودَ بالشُّبُهات»، ورد في الأثر أيضا: «ادرَؤُوا الحدودَ عن المسلِمينَ ما استطَعْتُم»؛ وهو الذي يجعل «النظرة الشمولية» أمرا في غاية الأهمية، وأقصد بذلك تلك النظرة التي تعتبر الشريعة كلها بمنزلة النص الواحد، والتي تجمع بين النصوص المتعارضة ظاهريا، والتي توازن بين جزئيات الشريعة وكلياتها، والتي تراعي التطور الزماني والواقع الإنساني، والتي تستحضر البُعد الزماني والانتماء الكوني، والتي تنظر في مآلات الأمور وعواقبها. ومما يدل على أهمية هذا الاستشراف قول الحق تعالى في الآيتين 26 و27 من سورة «نوح»، حكاية عنه، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}.

ختاما.. وإذا ما كنا جادين في خدمة الواقع بالشريعة، وجادين في أداء واجبها علينا؛ فليس أمامنا إلا القيام بمعالجات علمية ومقاصدية وفلسفية لكل أو أهم إشكالياتنا، وهو ما يتطلب استيعاب الموروثات الفقهية، كذا ابتكار مستحدثات معاصرة، تناسب واقع الناس، وتوافق العطاء الذي يمكن أن يقوم به كل فرد منهم، والله الموفق والمعين، وعيد مبارك وكريم، وتقبل الله من الجميع الصيام والقيام وصالح الأعمال.