في عصر «التطرف» و«الوسطية» و«التصنيف» و«الإقصاء»، لا يمكن تصور وجود سلام مجتمعي من دون وجود «تسامح» بين الناس، وهذا الشرط لا ولن يتحقق من دون توضيح وتعريف لمصطلح «التسامح»، في سياقيه، الشرقي والغربي؛ ففي الشرق، التسامح يعني التجاوز عن الزلات، والتسامي عن سفائف الأمور، وهو من قبيل الإحسان؛ وفي الغرب يعني احترام الحريات، والاعتراف بحق الإنسان في التعبير، وفي كل الأحوال يعده الكل الباب العريض الذي يسع كل من لا تعرف الخصومة والعداوة طريقهما إلى قلبه.

سيدنا علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، كتب رسالة شهيرة طويلة إلى مالك الأشتر، عندما ولاه الحكم في مصر، وعدها العلماء عهدا في كيفية إدارة الدولة وسياسة الحكومة ومراعاة حقوق الخلق، مع نظريات دقيقة عن الحاكم والحكومة ومناهج الاقتصاد والاجتماع والسياسة والحرب والأُمور العبادية والقضائية، ومن أبرز ما جاء فيها قوله: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: [إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق]، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك! وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم»، ودائما ما يتوقف الناس عند تقسيمه، رضي الله عنه، الناس لصنفين، وهو ما يدل على أن «الكرامة الإنسانية» سابقة على «الكرامة الدينية»، وأن هذا هو أساس التصور الصحيح للعلاقات بين الناس، وأن التعدديات، والدينية بالخصوص، محترمة ومحمية، ويشهد عليها قول الحق سبحانه وتعالى في الآية 251 من سورة البقرة: {.. وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين}، وفي الآية 40 من سورة الحج: {..وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز}، والآية الثانية أكثر صراحة في حماية الديانات، وأن الاختلافات إن وجدت، فلا يمكن أن تكون مبررا للقطيعة والعداوات، أو امتناعا عن الحوارات والبحث عن الحلول التوفيقية بين الناس، وفق المصالح والمفاسد المعتبرة عندهم..

أختم بأن الرواية الصحيحة للإسلام ينبغي أن تقدم، والرؤية الصحيحة للتسامح ينبغي أن تشاع، ولا بد من توفر القناعة بتوسيع دائرة الأفق الإنساني، والحرص الجاد على الوقوف ضد الكراهية، وضد العنصرية، وتعزيز روح التعارف والتعايش، وتعلية قيم المحبة، والرحمة، والتيسير، ورفع الحرج عن الناس، والتوسط بين الإفراط والتفريط، والاعتدال الذي تنتهي عنده كل صور الغلو والتطرف في السلوك الخاص وفي الوعي العام؛ بأن الزمان تغير، وأحوال الخلق لم تعد كما كانت، وكلما تطورت الدنيا، احتاج الناس إلى استحداث نظريات في ما حولهم، اعتمادا على قواعد دينية ثابتة، من جنس «المشقة تجلب التيسير»، والضرورات تبيح المحظورات، وغيرهما من القواعد التي تساعد على الخروج من الجمود ومن التقليد، بدلا من الاستماتة في إلجاء الناس على رأي واحد، وأن «من لم يكن معي فهو ضدي».