نبحث عنها... ونحن بكل نرجسية ندّعي بأننا نمتلكها! كيف؟! وهل يستحق مثل هكذا سؤال إجابة؟! كيف نبحث عما نمتلكه، أو بالأحرى نؤمن بأننا نمتلكه؟! ما هذا التخبط الذي نعيش فيه حقًا، إنه تخبط يعيش في ظلال من التشويش والتزوير ينعكسان على أسطح من المستنقعات المليئة بعفن الكذب والفبركة، لكن هل نرى التشوهات... هل نستنشق أبواغ العفن.. هل نشعر بالخداع؟!

بلا ذاكرة... نعم نحن المثقفون بلا ذاكرة! نعيش مقتبسات ما نقتصه من الكتب، نحفظ عناوين ونجترها في الجلسات والاجتماعات والمؤتمرات؛ هاملت، شقة الحرية، مدن الملح، الغريب، اقتراح متواضع، العالم والنص والناقد، نهاية رجل شجاع، المسخ، الجريمة والعقاب، حيونة الإنسان، فسوق، الوباء، خطبة رائعة ضد رجل جالس... أقوال بل بضعة أسطر من هنا أو هناك، ثم نتقلص كوجنتي مُدخِّن بعد سحبة هواء ملوث من سيجارته، وبعدها تنتفخ الوجوه لتبث الكلمات المبعثرة في العقول، فيلتقطها المستقبل في ذهول مدعيًا أنه يفهم وهو بالكاد يفهم الكلمات ليدرك مقاصد العبارات.

ومن ثم تبدأ عملية إعادة تدوير الفكر المتجزئ ليتحول إلى مسخ تتداوله الأصابع التي بدورها تضرب على أصابع المفاتيح على الأجهزة الإليكترونية.... وبعدها كل شيء يسبح منتشرًا في الفضاء الافتراضي إلا «هي».

كمثقفين نحن مزيج لا نهائي من الشخصيات الهلامية التي تبحث عن مؤلف، غريب كيف أننا لا نرى أنفسنا! حتى عندما ننظر إلى المرآة لا نراها، ما نرى فقط هو ما نريد أن نراه، وهو ما رسمناه في مخيلاتنا أو صدى ما أرسلناه في عقول الآخرين فيرجع إلينا على هيئة صور إطرائيات وتبجيل.

إدراكها يجعلنا خائفين، نعم نبحث عنها ونخافها، لأننا قد لا نتحمل الصدمة، حوّلنا الحياة إلى مسرح عرائس نمسك بالخيوط من فوق لنحرك من هو تحت. نرجسيتنا تمنعنا من أن نرى بأن هناك من يحركنا أيضًا!.نركز على الخيوط التي تحتنا فلا نشعر بتلك التي تشد عقولنا وأيدينا وأرجلنا. واثقو الخطوات نمشي بخيلاء مرفوعي الرأس ولكن الأعين لا تنظر إلاّ إلى الأمام أو الأسفل، وإن حدث ونظرنا إلى فوق لا نرى.. خائفون... نحن خائفون.

نغرق في عالم من الأوهام ونُغرِق معنا كل من يتصل بنا، تحولت بين أيدينا ثقافة الفكر إلى دعارة الفكر... يباع ويشترى لكل من يقدم الثمن! الخيانة كما حذّر أحد المفكرين قد تصبح «وجهة نظر»، وبين أيدينا حولنا الثقافة الهابطة إلى وجهة نظر... وجبة سريعة تقدم على سفرة فاخرة بصحون من الفضة وملاعق من ذهب! باتت غالبية ما يُقدم من أفكار وأقوال حتى الصور والمقابلات التي تبث على وسائل التواصل الاجتماعي، أعمال مزيفة رخيصة تم التلاعب بها من أجل ماذا؟ من أجل أن نبقى على القمة!

جياع... كالضباع المسعورة، ننهش ببعضنا البعض! كل يريد أن يستحوذ على الأضواء بل أن يسرقها من الآخر وكأن خشبة الحياة لا تسع أحدا غيرنا.

أصبحنا نفهم بكل شيء ونفتي بكل شيء؛ بالكتابة، بالدين، بالموسيقى، بالمنطق بالفلسفة، بالأزياء والمكياج والفن التشكيلي، بالسيارات والسياسة حتى فن الطبخ والرياضة، مستعدون أن نسرق أن نهدم أن ندمر كل من يقف في طريقنا من أجل الشهرة... من أجل المال والنفوذ! نريد أن نشير بأصابعنا فتسارع الأيادي لخدمتنا؛ بتقديم القرابين على مذابحنا حتى نرضى.

نحمل شعلة المبادئ وحقوق الإنسان ونسير في ظلها نسطر بأقلامنا الملاحم المزيفة؛ ندعم قضايا المرأة والطفل والعامل والموظف والمواطن والشتات، وعندما نصل إلى مبتغانا من الشهرة والأضواء وتمتلئ الجيوب بالمال وتنتفخ الرؤوس نشوة بالسلطة والنفوذ، تتكشف الوجوه عن أرواح جافة بلا مشاعر أو حتى ضمير! فنجد المُعنِّف والعاق والخائن والبخيل والسارق والمنتحل؛ إنها أبشع صور للإنسانية في ثياب الحملان... تختبئ! كم تكشفت لنا صور بشعة أمامنا ولكن للأسف بقيت «هي» كروح المسافر التي تصل إلى مقصدها بعد أيام من وصول الجسد... تصل متأخرة... متأخرة جدًا؛ وحين ذلك أيضًا لا نراها!

آن الأوان كي تنطفئ شعلة الخداع المستعرة! آن الأوان كي يغدو الصمت سيد المكان لتنطلق «هي» وتصدح بصوتها فتتطهر الكلمات من عهر المقاصد، حينها قد نتوب... قد نتوب، آن الأوان كي تتحرك في زوايا الذاكرة القاتمة بعض من خيالاتها النقية لتصرخ بوجه البشاعة وتُبدد عتمة التزوير والفبركة. آن الأوان لتدب الحياة بما انضمر ومات منذ زمن بعيد، آن الأوان كي نعيد «الحقيقة» إلى الصدارة... آن الأوان للضحية أن تظهر وتعلن حق وجودها بيننا... أن نراها دون خوف... أن نعيد للفكر طهارته وللقلم نقاؤه، أن نعيد للصور أصولها وللمشاهد حقيقتها... أن نعيد أنفسنا إلينا... نعم. نعم. آن الأوان لنعيد للضحية الأبدية اعتبارها وأحقيتها في الوجود... آن الأوان للحقيقة أن تسطع وتسود، قد يعود معها المثقف الصادق حامي الحقيقة والعهد المفقود.