غابة الطفولة هي تسجيل لتجربة شخصية عشتها كما نقول على جلدي.. الغابة حقيقية وهي جزء عزيز جدًا من طفولتي يشدني إلى الأرض من جهة وإلى البشر، وإلى الآباء والأجداد من ناحية ثانية..

وفجأة فقدت هذه الأرض.. ليس بزلزال أو بركان إنما بعمل بشرى، حين أتت قوة غريبة غاشمة وصادرت هذه الغابة ووضعت حاجزًا عسكريًا بين الطفولة والحلم.. بين الماضي والحاضر..

ولذا كانت هذه الوقفة مع غابة الطفولة.

«اليوم» رأيت شابًا مصابًا بالشلل جالسًا في كرسي ذي عجلتين على مقربة من السوبر ماركت.. عشرات الناس مروا به دون اکـتـراث..

دنوت منه وسـألتـه: هل أستطيع أن أساعدك؟

أكـون شـاكـرًا لو سـاعـدتنى بدفع الكرسي إلى شـارع هنفئيم (الأنبياء)..

فعلت ذلك بلا تردد «وحين وصلت به إلى المكان الذي أراده التفت إلى بوجه يطفح بالامتنان»

وقال وأنا أكاد أبصر قلبه على شفتيه: «شكرًا لك يا سيدي.. شكرًا جزيلًا.. حقًا إنك يهودي جيد!». الصهاينة لا يتوقعون خيرًا من غير اليهودي، وهو ما دل عليه هذا الموقف، بالمناسبة هذا الشيء يحدث لي ولعشرات وربما لمئات العرب.. لأن هناك تعبيرًا شعبيًا على ألسنة الإسرائيليين، حينما يريد أن يمتدح شخصًا ما يقول «هـو يـهـودى طيب أو جيد».. ولذلك هم يطلقـونـهـا جزافًا دون أن يدركوا خطورة هذا التعبير، كأنما الجيد والطيب هي صفة مرادفة لليهودي فقط.. وطبعًا هذه مسألة تعود إلى تراث من الشعور الزائف بالتفوق..

هي حالة منبثقة من عقدة توراتية قديمة، لكن هذا لا يكفي، نحن لدينا مثلا في القرآن الكريم «كنتم خير أمة أخرجت للناس».

هذا كلام يجعلنا نحس بالمسؤلية.. بضرورة التواضع.. بضرورة التراحم والتفاهم مع الآخر..

إذن فبين «كنتم خير أمة أخرجت للناس» وبين «أنتم الشعب المختار»، من حيث النص الفارق ليس كبيرًا، وقد يكون متقاربًا جدًا، لكن المشكلة في الخـلاصـة.. في الاستنتاج.. في التعامل مع النص بفكر حضاري إنساني دون عقد تفوق، كما حدث عند بعض إخوتنا أو أبناء عمومتنا إن جاز التعبير.

ويتبادر إلى ذهني خاطر أن اليهود على مر تاريخهم الطويل لم يعيشوا فترة أفضل من الله الفترة التي عاشوها في كنف العرب في الأندلس.

مرة سجنت في الغرفة (أيخمان)، وهذه أيضا من سمات السادية العنصرية..

أيخمان هو مـجـرم نازی اصطاده الإسرائيليـون وحـاكـمـوه وأعـدمـوه وأحرقوا جثته وقذفوا برماده في البحر.. ونحن لم نكن في أي وقت كعرب وكفلسطينين في خط النازية أو الهتلرية..

فنحن سـامـيـون وأصـحـاب قـضـيـة عـادلة.. ونحن ضـد العنصرية.. ولا يمكن أن نوضع في مواقع القتلة والسفاحين والجلادين.. نحن ضـحـايا.. ولذلك عمليـة وضعي في هذه الغرفة وسخرية السجـان حين قال لى «ها أنت الآن النزيل الأول على غرفة أيخمان»، فهم يقارنونني بأيخمان بكل صلف وصفاقة ووقاحة..

قلت هذا تمثيل بالجثث إذا كان لأيخمان من نظير فهو كل من يمارس العنصرية.. وكل من يعتـدى على كرامة الشعوب وأرضها وحقوقها.. أنا الضحية.. أنا ممثل ضحاياكم في أفران النازية.. وفي هذه المسألة خضت ومازالت أخـوض نقـاشًـا حـادًا حـتى مع بعض العرب..

لن أسمح للطغاة والجلادين أن يظهروا بمظهر محامي الضحايا وهم ليسوا كذلك..

نحن من يحق لنا أن نتكلم باسم الضحية. عبر التاريخ، الضحية يحق لها أن تتكلم باسم الضحية، أما الجلاد فهو الجلاد في كل مكان وزمان..

وفي المعتقل تعرفت على عدد من المعتقلين العرب من مناطق مختلفة من الهضبة السورية ومن قطاع غزة ومن الضفة الغربية، نظرت إليهم وانتابتني رغبة شديدة في البكاء، «إننا نقيم هنا نومًا فريدًا من الوحدة العربية»، كنت أتمنى أن يلتقى العرب من شتى الأقاليم في إطار وحدة عربية طوعية اختيارية، وأنا الآن لا أتكلم بروح الشاعر، بل بنظرة المفكر الواقعي إلى أقصى الحدود..

لن تقوم للعرب قائمة بدون الوحـدة.. والوحدة بالنسبة لي ليست مطلبًا رومانسيًا هي مثل الحياة أو الموت بالنسبة لأمة بكاملها. إذن من أجل كرامتنا من أجل أطفالنا ومستقبلنا لابد من العودة إلى ما كان..

أنا لا أدعو إلى اختيار شيء جديد، الدولة العربية الموحدة من المحيط إلى الخليج كانت أمرًا واقعًا.. وأنا أدعو إلى العودة إلى هذه التجربة التي وضعتنا أنذاك كدولة عظمى لها احترامها وكرامتها ودورها في التاريخ.

نحن اليـوم على هامش التاريخ ونحن لا نستحق هذا الموقع.. نحن ربع مليـار إنسـان ٢٥٠ مليـون عـربي في وطن رائع وشعب طيب وجمیل ومبدع وذکی.. ليس طبيعيًا أن نكون في قاع السياسة الدولية وفي قاع العالم، وأن ينظر إلينا باستعلاء كل عابر تاريخ..

من حقنا أن نستعيد مكانتنا تحت شمس الله أمـة واحدة في دولة واحدة في وطن واحـد، بحيث نحتل موقعنا الصحيح والمناسب لحجمنا وتاريخنا..

أنا قناعتي بعروبة القضية الفلسطينة ورفضى لحالة «سايكس بيكو»، حالة التجزئة العربية هي مسألة غير قابلة للتفاوض أو المساومة أو لإعادة النظر.. أنا إنسان وحـدوى من طـفـولتي.. ولدت وحـدويـًا ومـازلت وحـدويًا وسـأمـوت وحدويًا.. لأنني على قناعة بأننا أمة واحدة وشعب واحد هذا هو الطبيعي.. أما واقع التشرذم والتشتت والتمزق الذي نكابده الآن فهو الحالة غير الطبيعية.

1968*

* شاعر وكاتب فلسطيني (1939- 2014).