كم يصعب السهل حين تتركه ثم تعود لتعمل عليه. قررت بعد أن تفرغت من مهنة التدريس وأعبائها التي كانت وما زالت أحب الأعمال إلى قلبي، أن أراجع حسابي في البريد الإلكتروني الذي تضخم لدرجة أنه بدأ يشتكي ويلح عليّ بأن أدخل وأخفف عليه من حمله، عندها وجدت أنني أعود لزمن من الذكريات والأحداث التي مرت عليّ وجميعها موثقة بالساعة واليوم والتاريخ.

يصعب حقًا على الإنسان أن يمحو جزءًا من ذاكرته، فكيف إذا كانت هذه الذاكرة مدونة أمامه تستجديه ألّا يحذفها!.

تحيرت أناملي أمام هذا الكم الهائل من الأحداث، ترى ماذا يمكنني أن أمحو وعلى ماذا أبقي؟!.

استوقفتني مقالة كتبتها قبل عشر سنوات تقريبًا بعنوان «ليس لأني امرأة بل لأنني... عربية»، كنت أتحدث فيها عن حدث خلال إحدى زياراتي خارج الوطن، حيث قابلت من يحثني على شراء قطعة من المجوهرات التي تعتبر تقليدًا لما ظهر بأحد المسلسلات التي تمجد عصر الجواري، وعبرت عن رفضي لما يحدث من تجريف لكرامة المرأة العربية إلى درجة أن خرجت من بيننا من تتمنى عودة ذلك العصر لتكون بين الجواري وتحيا كما رأتهن يفعلن خلال أحداث المسلسل على الشاشة، كتبت حينها:

«المرأة العربية كانت وما زالت وستظل حرة أبية، شاء من شاء وأبى من أبى! أين هن، من العرَق الطاهر على جبين المرأة في المصانع، أين هن من التشققات على أيادي الفلاحات، أين هن من طهر أرواب الطبيبات والممرضات اللائي يخففن من الآلام، ويسهرن على رعاية من لا يعرفن، بل كل ما يربطهم بهم أنهم إخوة في الإنسانية، أين هن ممن تعمل في صمت من منزلها لتزيد دخل أسرتها، أين هن من فضل الداعيات اللائي يساعدن بتوعية الفتيات ليل نهار دون كلل أو ملل، أين هن من العالمات والمبدعات في جميع مجالات العلوم الطبيعية والإنسانية؟ أين هن من حفيدة يعرب، التي حين احتاجها الرجل وجدها في الميدان، وفي الحقل كما في المدينة، دوما السند ودومًا المدد، وفوق هذا كله أنجبت أجيالًا وأجيالًا، وأخرجت لنا ما لا يعد ولا يحصى من العظماء؟ والآن.... أتريدونني أن أقف وأعطي تحية إجلال وإكرام لمن يريد أن يزين لنا القيود ويظهرها كأساور! هزلت وألف هزلت.

أيتها المرأة العربية، لا أعرف هل أبكيك أم أبكي على نفسي! إن لم تكوني أنا فمن أكون غير أنتِ، كيف نسمح لمن يجهلنا بل يجهل ماهية تركيبتنا، أن يزين لبناتنا ونسائنا الجهل والجاهلية؟! والله ولو كان الأمر في دكان منزوٍ بزقاق منسي في قرية مهجورة، لن أدعه يمر دون أن أعلن رفضي وألفت الأنظار إليه، فالأمر بهذه الأهمية لي، ليس لأني امرأة بل لأنني.... عربية!».

كنت أظن أنني أكتب عن مرحلة وتَعبُر، ولكنني وجدت - للأسف-أن الكلام ينطبق على ما يحدث الآن في الكثير من تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، يعملون على تحويل بناتنا ونسائنا إلى جوارٍ بمعايير العصر الحديثة، بل وانضم إلى الركب رجالنا وأبناؤنا!.

باتت وسائل التواصل الاجتماعي سوقًا حديثة للنخاسة، «على أونه وعلى دو... ومين بدّو يشتري مين»! الكل يستعرض جسده، والشاطر الذي يظهر أكثر، بل البطل من يتحدى كل الأعراف، بحركات وأفعال صادمة لكل ما هو أخلاقي إن لم يكن خارج الشرع والدين أصلاً!.

قال مكيافيلي «الغاية تبرر الوسيلة»! وبما أن الغاية في عصرنا انحصرت بالشهرة والمال، باتت كل الوسائل مباحة. وقال جوزيف جوبلز، داهية الإعلام النازي: «اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس».

والحال اليوم بمشاهير وسائل التواصل الاجتماعي يقول: «اصدم ثم اصدم حتى يتبعك الناس».

وتستمر عمليات كي الوعي الجمعي بكل سهولة، وتحولت المجتمعات إلى عبيد المال والشهرة، تتبعها جماهير أدمنت الصدمات، بل باتت تدافع عنها وتبرر لها، وكله يندرج تحت «حرية الرأي و التعبير»، والأنكى من ذلك حين يدخل على الخط أشباه المثقفين المبهورين بالغرب المتعلقين بأذياله، ليبرروا لنا هذه الأفعال بأنها تمثل المدنية والحرية الشخصية.

لا أتحدث عن الجميع سواء من المشاهير أو من المتابعين، فهناك محتويات راقية ثرية، تنشر الثقافة والعلم والمعرفة بل والترفيه أيضًا، لكن بوعاء يحترم المتابعين، ويحرص على الأخلاقيات والمبادئ التي تمثل المجتمع الذي ينتمون إليه. ولكن للأسف وفي الوقت ذاته هم لا يشكلون الأغلبية، ففي مقابل كل صاحب محتوى راقٍ ينبت لنا ألف صاحب محتوى منحط، والمخزي حقًا أنه حين تجادل البعض ممن يتابع هذا الانحطاط، يجيبك بأنه غير راضٍ لكن يريد أن يرى لأي مستوى سوف يصلون؛ أي كما يقول المثل: «عيني فيه وتفو عليه»!.

ألا يعلمون بأن ما نرفضه اليوم مع التكرار ومرور الوقت سوف نتقبله وبعدها شيئًا فشيئًا يصبح جزءًا منا ونبدأ بالدفاع عنه؟!.

نريد أن نستيقظ حتى نتمكن من إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فالوقت لم يعد في صالحنا، وأجيال بأكملها تنزلق من بين أيدينا وتنحدر إلى أعماق الانحطاط، لا نريد أن نفقد تأثير شباب وشابات من أبناء وبنات الوطن ممن يعملون بكل جهد وهم ينحتون في الصخر بلا هوادة وبكل إصرار وتفاني، يقدمون بكل فخر ورقي، إنجازات يقف لها العالم إجلالًا وتقديرا، لغوغاء لا يشعرون بأي مسؤولية سوى لأنفسهم ولزيادة أرصدتهم في البنوك!.