في المقالين السابقين تحدثت عن استخدام التصوف كاستراتيجية سياسية، ليس من قِبَل المشروع الباطني الذي كان أولَ بروز له هو في الدول الباطنية كالقرامطة في هَجَر والعراق والصليحيين في اليمن والعبيديين في المغرب ومصر؛ بل استمر كذلك عبر الدول المنتسبة للسنة والتي كانت تتغلب على ضعف أهليتها للبقاء عبر إشاعة روح الخنوع والانكماش الصوفية في المجتمعات، كما حصل مع المماليك الذين هم على اسمهم مملوكون لا يجوز لهم الحكم شرعًا، وكانت شِيم أهل البلاد تأبى الانقياد لهم، فكان نشر الغلو الصوفي مهم في بقائهم.

واليوم يستخدم التصوف من قِبَل استراتيجيي الدول الغربية، ونخص الولايات المتحدة في مشروع تسليم الشرق الأوسط إلى إيران، والذي بدأ بتسليم العراق ثم سوريا ثم اليمن، وكاد أن يصل إلى تسليم مصر أيضًا، وذلك باعتبار التصوف يُضعف كثيرًا ممانعة المجتمعات ضد الفكر الشيعي، كما أنه يضعفها أيضًا ضد الغزو الثقافي، وكذلك ضد الغزو العسكري.

من المؤكد أن هذه الاستراتيجية الغربية الأمريكية فكرة خرقاء لم يُنظر فيها إلى مصلحة الغرب نفسه ولا الولايات المتحدة، وإنما نُظر فيها إلى مصلحة الكيان الصهيوني فقط، والذي يطمح إلى تحطيم كل الدول المحيطة به وإغراقها في صراعات داخلية، وتشتيت أهلها ما بين القتل والتهجير، وأن اختيار إيران وخلفيتَها الفكرية الصفوية القائمة على فرض التشيع واستحلال قتل المسلمين وتهجيرهم، لأنها الخلفية الأقدر على تنفيذ هذا المشروع.

وأي خلاف بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة وبين إيران فليس خلافًا على الوجود أو على حقيقة المشروع المشترك بين الصهاينة والإيرانيين والغرب؛ وإنما الخلاف على الحدود التي ينبغي أن تتوقف عندها إيران، وهو ما يُفَسِّر الصداقة في الباطن، والتي تم كشفها في عدة مناسبات، والعداء في الظاهر الذي وصل حد تنفيذ الصهاينة عمليات عسكرية حقيقية ضد إيران.

أَعْتَقِد أن أول من كَشف هذا المشروع المشترك قبل أن تظهر على السطح أي تسريبات عنه، هو الوسط العلمي السلفي دون منازع،وقد كشفوه بالتفسير العقدي للتاريخ، والذي يعتمده السلفيون كثيرًا وفق رؤيتهم بأن العقيدة في كل زمان ومكان هي المحرك الأقوى للتاريخ البشري، فقد كشفوه منذ 1399هـ أي قبل أن يتحدث أي أحد عن دور الغرب في الانقلاب الإيراني، كان السلفيون يؤكدون هذه العلاقة دون تجاوب أحد معهم، إلى أن جاء أولُ كشف رسمي عنها، وذلك في فضيحة ما يُعرف بإيران جيت سنة 1405هـ أي بعد قيام ثورة الخميني بست سنوات في حين أن الأدبيات السلفية في ذلك الوقت قد أجمعت على أن إيران والغرب والصهاينة شركاء في مخطط واحد وما النزاعات بينهم كأزمة الرهائن سوى خلافات جانبية يتم تضخيمها في الإعلام عمدًا.

ما كشفه السلفيون عام 1399هـ أصبح للجميع كالشمس في رائعة النهار عام 1423هـ حين احتلت أمريكا العراقَ وسلمته إلى إيران، وقال الأمير سعود الفيصل رحمه الله: إن الولايات المتحدة سلمت العراق على صينية من ذهب إلى إيران، وحذر الملك الأردني من هلال شيعي قادم؛ لكن على أرض المواجهة الفعلية ظَنَّت بعض الدول العربية أن الدعم الأمريكي لإيران نتاج دراسات خاطئة للتشيع الصفوي تُشير إلى أنه منهج متسامح مع الديانات والمذاهب الأُخرى، ودراسة خاطئة أيضًا للاتجاه السني في فهم الإسلام تُوْهِمُ أنه يقوم على الشدة والمنازعة في التعامل مع المخالفين من مذاهب وديانات.

لذلك رأوا أن إقناع الغرب بعكس ذلك هو ما سيغير سياستهم في المنطقة.

والحقيقة: أن هذا الاتجاه الذي اختارته بعض الدول العربية جَيِّد، لتغيير المفهوم السائد لدى الشعوب الغربية ومثقفيهم ومؤسساتهم الثقافية؛ لكنه لن يُغَيِّر شيئًا في الاستراتيجيات الغربية والأمريكية في التعامل مع إيران، لأن هذه الاستراتيجيات لا تنطلق من مفهوم ثقافي تتغير بتغيره، وإنما تنطلق من مصالح صهيونية لا تستند لأي حقيقة ثقافية ومع ذلك تريد تزوير الحقائق الثقافية لتتماشى مع هذه المصالح؛ تمامًا كالوجود الصهيوني في المنطقة فهو لا يستند لأي حقيقة تاريخية، ومع ذلك يتم تزوير التاريخ من أجل دعمه؛ فكذلك تسليم الغرب المنطقة برمتها لإيران وللتمدد الصفوي في العالم الإسلامي ليس نتاج فهم خاطئ للتشيع الصفوي، وللمذهب السني؛ بل على العكس تمامًا، فواضعوا هذه الاستراتيجيات المتماهية مع إيران يعلمون جيدًا أن الصفوية وحدها هي القادرة على نشر الدمار والخراب في المنطقة باسم التمهيد لخروج المهدي وقادرة أيضًا على مخادعة الشعوب والنفاق، لذلك تم اختيارهم عمدًا، وليس نتيجة أفكار مغلوطة عن السنة والشيعة.

لذا فالغرب الرافض لإقامة أي دولة في العالم على أساس ديني، نجده يحتضن الخميني في فرنسا، ويدعم انقلابه على شاه إيران ويخدمه في ذلك إعلاميًا وسياسيًا وعسكريًا، ويسمح له بكل أريحية أن ينشر مفاهيمه الدينية في العالم السني، وكذلك يسمح لمعتنقي فكرته الدينية بإقامة أعمالهم الدموية المضادة للعقل الأوروبي المعاصر وقواعد حقوق الإنسان في بعض العواصم العلمانية الأوروبية؛ إذن فالدولة المبنية على أساس ديني مقبولة غربيًا حين تكون إيران وإسرائيل فقط، مرفوضة حين تكون أي دولة أخرى.

وهذا المعنى ربما لم تدركه أكثر الدول العربية فاعتقدت أنها تستطيع قطع طريق إيران في استقوائها المستتر بالغرب عن طريق التمادي في النهج العلماني، لكن ذلك لم يصنع شيئًا وظل مشروع إيران والغرب فاعلًا حتى اليوم؛ بل تجلى بسفور تام حين فاز في الانتخابات العراقية عام 1431هـ الشيعي العلماني إياد علاوي، لكن السلطات الأمريكية المهيمنة على الواقع سَلَّمت منصب رئاسة الوزراء للمتطرف دينياً نوري المالكي؛ وانكشف مع الأيام دعم إيران والولايات المتحدة على السواء للتيارات المتطرفة المنتسبة لأهل السنة من أجل ذبح السنة وتشريدهم وحصار الأنشطة الإغاثية والخيرية من دولهم بحجة حرب التطرف.

الحاصل من كل ذلك أن أي مواجهة لإيران عبر استرضاء الغرب والولايات المتحدة بدعم العلمانية في المنطقة أو دعم التوجهات الدينية المتسامحة مع مشاريع العولمة كالليبروإسلامية والصوفية تُعَدُّ فكرة خاطئة، فهذه التوجهات مطلوبة غربيًا في المنطقة لعكس ما يتصوره كثير من الباحثين في الاستراتيجيات الدولية، فما يتصوره هؤلاء الكثير هو أنها مطلوبة من قبل الغرب لكونها تدعم السلام وتجارب التطرف، وهذا غير صحيح؛ بل هي مطلوبة منهم لكونها تُدَجِّن المجتمعات لما يُريد الغرب فرضه عليها من أفكار وسياسات ومشاريع تغيير كبرى وجعلها عاجزةً عن المواجهة، بمعنى آخر: المطلوب غربيًا إرجاع المجتمعات العربية لِمَا كانت عليه أوائل القرن الرابع عشر الهجري ونهاية القرن التاسع عشر الميلادي من القابلية للاستعمار الفكري والسياسي والعسكري.

إن ما تفعله إيران اليوم في المنطقة ليس مشروعًا إيرانيًا؛ بل مشروع غربي تُستخدم إيران عاملًا فاعلًا في تحقيقه، وكل أيديولوجيات الدينية التي يُشجع الغرب على نشرها في المنطقة لا يفعل ذلك إلا لأنها الأقدر على تأهيل المنطقة لتحقيق مشروعه، فما هو الحل؟

الحل هو أن تتبنى دول المنطقة كلها دعم الفكر الذي لا تريد إيران والغرب رؤيته، وهو الفكر السلفي الذي تُسَجَّل له سابقة فهمه لما تريده إيران ومن وراءها، وإدراكه المبكر لعلاقتها الحميمة بالغرب، وهو التوجه الوحيد الذي قام بمشاريع إعلامية وتعليمية مضادة لهذا المشروع، وهي المشاريع التي لم تلاق إلا القليل من الدعم الحكومي العربي، ومع ذلك بقيت ونفع الله بها وما زال ينفع بها في جميع البلاد التي تشتغل فيها إيران للتغيير العقدي في آسيا وأفريقيا.

نعم إن الدعم الدولي والعربي أيضًا للمذاهب البدعية، صَرَف كثيرًا من الجهود الدعوية السلفية عن مقاومة المد الصفوي في المنطقة إلى مقاومة الحرب التي تُشَن عليها من داخل المحسوبين على أهل السنة والجماعة والذين هم بدورهم وُجِّهوا لشغل السلفيين بهم عن مقاومة المشروع الإيراني، هذا أمر صحيح ومؤسف، وموقف السلفيين في الدفاع عن سلفيتهم ليس لهم بد منه،لأن الحفاظ على رأس المال أولى من البحث عن مكاسب.

ونعم أيضًا إن كثيرًا من السلفيين دخلوا في صراعات سياسية داخل بلادهم وخارجها تحت عناوين متعددة منها تغيير المنكر أو الإسهام في اتخاذ القرار أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهؤلاء لا يمكن لومهم جميعًا أو تأييدهم جميعًا فكل دولة لها ظروفها الخاصة؛لكن ذلك في عدد من الدول أسهم في دق الأسافين بينهم وبين حكوماتهم، وهي أسافين قابلة للنزع وإعادة الثقة من الطرفين، والعمل المشترك نحو هدف مؤكد وهو حماية دولهم من كيد عالمي يراد بها.

أما ما نقول له: لا، فهو ما يريد العدوان الصفوي والصهيوني ومن وافقهم ووافقوه ترسيخه وهو أن السلفية تعني العنف والترويع والإرهاب، فقد اتضح أن هذه الصورة رسمتها المخابرات العالمية وإن انتسب إلى أهل السنة بعض أدواتها، والخضوع لتأثير هذه الصورة قد أتفهمه من عامي بعيد عن الثقافة أو من مثقف ذي هوى وبعد عن تقييم الأحداث بصدق، لكنني لا أتفهمه من سياسي يبني تصرفاته على تقارير محكمة من مصادر أمنية واستراتيجية ثقيلة.