قدم الفنان محمود مراد مذكرة إلى وزير المعارف الدكتور أحمد ماهر يقترح فيها إدخال علم الموسيقى والغناء في جميع المدارس، وعرض وزير المعارف الأمر على رئيس الوزراء سعد زغلول الذي وافق على الاقتراح، وأصر أحمد ماهر على إدخال الموسيقى والغناء إلى المدارس الثانوية والابتدائية، وكان هذا آخر قرار وقع عليه، وفي الوقت نفسه استقالت الوزارة وقبض الإنجليز على أحمد ماهر ووضعوه في السجن بتهمة التحريض على قتل السردار وحاكم السودان.

وأصبح علي ماهر شقيق أحمد ماهر وزيرًا للمعارف فأمر بالاستمرار في تنفيذ قرار أحمد ماهر.

وأعلن ناظر مدرسة الأوقاف ـ الخديوي إسماعيل، أن الموسيقار محمد عبدالوهاب عين أستاذًا لنا يعلمنا الموسيقى والغناء ويدعونا للانضمام إلى فرقة المدرسة، وأسرعت بالانضمام ! وجاء عبدالوهاب يلقي علينا دروسًا في الموسيقى والغناء وكان شابًا صغيرًا أنيقًا... وحضرنا ثلاث حصص للأستاذ الجديد، وفي الحصة الرابعة أراد أن يمتحن أصواتنا في الغناء.

وسمع عدة طلبة، ثم طلب مني أن أغني، وكانت مفاجأة مزعجة لي ولعبد الوهاب معًا، وأذكر أنني غنيت أغنية «وحوي يا وحوي إياحا البنت الحلوة الفلاحة» !

هذا ولم يحضر عبدالوهاب إلى مدرسة الأوقاف بعد هذه الحصة، ولا أعرف إذا كان بسبب صوتي المزعج، أم لانشغاله بأعمال أخرى.

وكان في الوقت نفسه يدرس الموسيقى والغناء لمدرسة خليل أغا الابتدائية، وكان إحسان عبدالقدوس تلميذًا بها.

وعرفت عبدالوهاب بعد ذلك، وأنا محرر في مجلة روز اليوسف، وكان كثير التردد على بيت السيدة روز اليوسف والأستاذ محمد التابعي، وكانت مجلة روز اليوسف شديدة الحماس لعبدالوهاب الذي كان يغني مجانا في كل سهرة تقيمها المجلة، وكان في ذلك الوقت في مصر حزبان، حزب عبدالوهاب وحزب أم كلثوم، وكانت أغلبية حزب عبدالوهاب من النساء، وأغلبية حزب أم كلثوم من الرجال، وكانت مجلة روز اليوسف تهاجم أم كلثوم انتصارًا لعبدالوهاب، وكنت المحرر الوحيد في المجلة من أنصار أم كلثوم... وكان باقي المحررين ضد أم كلثوم على طول الخط.

ورأيت عبدالوهاب وهو يصعد درجات سلم المجد درجة بعد درجة، وقال لي عبدالوهاب يومًا:

ولدت وفي داخلي بذرة الثورة، وليس هذا غريبًا، لأنني حضرت في طفولتي ثورة 1919، وكنت من أشد أنصار سعد زغلول، وأذكر وأنا ولد صغير كنت أغني بين الفصول في فرقة الأستاذ عبدالرحمن رشدي، وكانت تمثل رواية «البدوية» من تأليف الأستاذ إبراهيم رمزي، وكانت ملابس الرواية عربية، العباءة والعقال، وحدث أن اعتقل الإنجليز سعد زغلول فخرجنا في مظاهرة في الشوارع ونحن بالملابس العربية، نهتف بحياة سعد وسقوط الإنجليز، وهاجمنا العساكر الإنجليز وضربونا، واعتقلوني، ثم أطلقوا سراحي لأنني ولد صغير.

في هذا الجو المشحون بالحماس والوطنية أرسل الله لي جوًا جديدًا ومناخًا جديدًا لم أعرفه، في شخص أمير الشعراء أحمد شوقي بك، رأيت دنيا جديدة، وعالمًا آخر غير الذي أعرفه، باشوات وبكوات وأدباء وصحفيون وفنانون وشعراء، واستفدت من هذا الجو كأنني دخلت عدة مدارس وجامعات في وقت واحد، وصحبني شوقي إلى باريس، وهو أمر لم يكن يحلم به أي مطرب، فتحت عيني على جو مختلف ـ عالم من الفن والموسيقى والأوبرا والغناء، مسارح كالقصور فنانون كالأمراء والسلاطين.

وكنت قبل ذلك أغني بين الفصول بعض أغاني عبده الحامولي وأغانٍ خفيفة، وكان عمري بين 11 و12 سنة، وكانوا يلبسونني بدلة «سموكن» ويضعون فوق رأسي الطربوش ويطبقون أصابعي على منشة، ويلبسونني ياقة منشاة وكرافتة حتى أبدو كبيرًا وطويلًا، وكنت أغني «عذبيني في مهجتي... فمهجتي في يديك..

وأمريني فالقلب طوع لديك» وأغنية أخرى «سمحت بإرسال دموعي محاجري» !

وكانت كل هذه أغاني الشيخ سلامة حجازي... وكانت هذه الأغاني في تلك الأيام لا تلائم جو الثورة الذي يسود البلاد، وبدأت أغني أغاني الناس التعبانين الشقيانين المكدودين المسحوقين، ولكن الفرقة لم تنجح فأغلقت أبوابها وجلست في البيت، وكنت أعيش في عاصفة مستمرة في بيتنا، أنا أريد أن أغني، وأبي شيخ، وأخي حسن في الأزهر يدرس للحصول على العالمية، وكل أقاربنا من رجال الدين، وحدث صراع بيني وبين أبي، ووقفت أمي بجواري تحميني من أبي ومن غضبه ولذلك فأنا أحب أمي حبًا خطيرًا، لولاها لما استطعت الاستمرار في الغناء ولأصبحت شيخًا في الأزهر.

وعندما قامت الثورة بدأت أندمج فيها وأغني أغانيها ! حدث مرة أن أصدر القائد البريطاني أمرًا عسكريًا بسجن وجلد كل من ينطق باسم سعد زغلول وإذا بالشيخ سيد درويش يضع لحن «يا بلح زغلول، يا حليوة يا بلح.. عليك ننادي في كل وادي يا بلح زغلول».

وانتشرت الأغنية في مصر كلها وأصبحت على كل فم، الناس تغنيها في الشوارع والبيوت في المدن والحقول.. وهكذا كنا نحارب الإنجليز بالغناء. وأسقط في يد الإنجليز فلم يستطيعوا أن يمنعوا الشعب أن يغني.

وسألت مرة عبدالوهاب عن علاقته بالفنان سيد درويش فقال: لم يكن الشيخ سيد درويش مشهورًا بأنه مطرب وإنما كان ملحنًا، وألف فرقة مع عزيز عيد وأفلست، ومثل رواية شهر زاد فأفلست، واتفق مع منيرة المهدية وألفا فرقة أفلست أيضًا، واقترح عليه بعض أصدقائه أن يجيء بولد صغير يغني بدلًا منه.. وجاءوا بي له، ووقف هو يقود الأوركسترا، ولم أكن أفهم وقتئذ ماذا تعني العصا التي في يد قائد الأوركسترا، وفشلنا فشلًا رائعًا وأغلقت الفرقة أبوابها.

سألت عبدالوهاب: في تلك الأيام كم كان أجرك في الليلة؟ قال عبدالوهاب: في تلك الأيام كانوا يقسمون الأجر بنسبة في المائة من الإيراد، وقد قبضت أجرًا عن الثلاثة أو الأربعة أيام التي غنيت فيها.

1982*

* كاتب صحافي مصري «1914-1997».