منذ عام1947 وكنت قد استمعت إلى معزوفة «الحب والموت» لريتشارد فاجنر - أحد عباقرة الموسيقى العالمية الكبار- على يد أوركسترا برلين الفيلهار موني بقيادة المايسترو العالمي فلهلم فور تفانجلر الذي وفد إلى مصر ليقيم سبع حفلات موسيقية، منذ ذلك الحين قر في نفسي الاعجاب بريتشارد فاجنر، ودفعني هذا الإعجاب إلى أن أتتبع أعماله عملًا عملًا مستمعًا إلى أسطواناته المسجلة. ثم إذا أنا تتاح لي الفرصة فأعيش في أوربا ردحا من الزمن وأشاهد أوبراته في دور الأوبرا المختلفة، وإذا أنا أجد لزاما علي أن أطالع كل ما أثير حول نصوصه وموسيقاه من ثناء ونقد لكي أعد نفسي لتفهم مبلغ فنه.

كم وقفت حائرًا حين رأيت فيلاند فاجنر الذي أخرج بارتسيفال بهذا الجلال الذي يتحقق داخل إطار البساطة يحاول في إخراج «أساطير الشعراء المغنين» محاولات تنتهي في الفصل الأخير بعرض بعيد عن الذوق والجمال المنشود. وليست فكرة تشييد مشهد السقالات حول البناء المعقود بالفكرة السيئة في حد ذاتها، غير أن سوءها يتجلى في عدم مواكبتها أصلا لروح هذا العمل الفني ومعناه والعصر الذي وقع فيه الحدث، حتى رمى النقاد الفصل الأخير بالقبح والغموض بينما هو أطول فصول العمل الفني كله وأهمها.

غير أن المرء لا يسعه إلا الإعجاب بالطريقة التي سيطر بها فيلاند فاجنر على تفاصيل لوحته الجامعة الشاملة، وإن عجز عن تخليص عمله من النقائص، أما أكثر التغيرات المثيرة فقد جرت في المشهد الأخير، فمثلت النقابات بعدد قليل من الشعراء على حين انفردت مجموعة الإنشاد بخشبة المسرح. وقد سبق الشعراء المغنين إلى المسرح موكب من مشاهد عصر النهضة على حين أحاطت بإيفا مجموعة ربات الفنون. والمنظر كله بما حوى من اجتماع نورنبرج مقصود به إبراز الفن الألماني المقدس. ولقد كان أمرًا غريبًا كل الغرابة أن يقل استمتاعي بموسيقى أساطين الشعراء المغنين بينما أشاهد المسرحية في بايرويت نفسها.


وبالرغم من هذا كله فإن هذا الإخراج جهد يستحق عليه فيلاند التهنئة، وكم يأمل المرء أن تتطور علاقة الموازنة بين الإعجاب والنفور من تحفة جده الجليل كي تبلغ مرحلة بناءة متوازنة في أي إخراج جديد لهذه المسرحية التي استهدفت الكثير من الجدل وأثارت قدرًا، كبيرًا من السخط حتى بين أشد مؤيديه تعصبًا له.

ولقد فتحت موسيقى تريستان وإيزولده نافذة واسعة على عالم الهارمونية العصرية، هارمونية القرن العشرين التي لا تتقيد بالمقام المعين والمقامات المتسقة منه والمنتسبة إليه أو القريبة منه، بل هي تلتزم بمختلف المقامات التي يجري التحوير فيها أحيانًا بالانتقال الكروماتي السريع، ذلك أن فاجنر قد بلغ القمة في تغيير الأجواء السيكولوجية المواكبة للمواقف الدرامية المتغيرة، وذلك بمبتكراته الهارمونية التي لا تتقيد بحدود. وهو بذلك قد حدد الطريق الذي قدر أن يتبعه عدد كبير من كبار مؤلفي الموسيقى العصرية منذ ديبوسي وريتشارد شتراوس إلى أرنولد شونبرج وأنطون فيبرن. فلقد خرجت هارمونية تريستان وإيزولده على كل قوانين الهارمونية التي ظلت شبه مقدسة إلى ذاك الحين، ولقد أبرز القائد العظيم كارل بم الهارمونية الخلابة لتريستان وإيزولده التي أشرف على إخراجها فيلاند فاجنر عندما قاد موسيقاها في مسرح بايرويت أمامنا بعد أن بلغ التسعة والستين في عام 1963.

هذا حساب قاس عسير لمولع بفاجنر وافد على بايرويت لأول مرة غير متهيأ إلا لمشاهدة الكمال، وعذري أني أحاسب مسرح المسارح الفاجنرية، غير أن أعمال فاجنر الفنية راسخة كالصخر وستظل راسخة حتى تجد الأسلوب المعاصر المناسب لها، أقول أسلوبًا ولا أقصد نموذجًا ثابتًا محددًا لا يتغير، بل أعني خطا عامًا أكثر وضوحًا وتناسقًا وبعدًا عن التناقضات.

وأخيرًا فإن زيارة بايرويت هي عندي تجربة عاطفية أكثر منها تجربة موسيقية أو درامية، فقد كان واضحًا أن كل فرد من أفراد الفريق البايرويتي يحاول أن يضفي على عمله ما يجاوز به المألوف، تلك الظاهرة التي يعرف معظم عشاق الأوبرا أنها تشكل الحد الفاصل بين الأداء الرفيع والأداء الهابط.

ولا أعتقد أن المولع عن عمق بالمسرح الموسيقي يمكن أن يخلف بايرويت دون أن يقع تحت تأثير أسلوبها الحديث؛ لأنه وإن لم يرض عن هذا الأسلوب كل الرضا، فهو لا يسعه أن يتجاهله. وحسب بايرويت أنها لا ترتكب جريمة الجمود الرتيب كما لا تنحدر إلى السوقية المبتذلة.

1992*

* كاتب ووزير ثقافة أسبق مصري «1921 - 2012».