الحجاب مسألة شخصية جدًا. ما كنت لأتطرق لأي حديث يتعلق به لقناعتي بأنه شأن المرأة وحدها و جوانبه الشرعية مترامية الأطراف عبر العصور. كان ذلك كذلك، حتى ظهر أحد رجال الدين في رسالة مصورة يبرر فيها بوضوح جريمة قتل فتاة المنصورة لكونها غير محجبة، ويعلن في رسالته أن الحجاب ضرورة للحفاظ على الحياة.

كنا سابقا نسمع من يبرر للمتحرشين ولكن اليوم يتم التبرير للقتلة! وكأنما نتعامل مع تبرير موقع على بياض لإيذاء المرأة غير المحجبة! هذا الرأي لا يصنف المرأة كضحية للجريمة بل كدافع ومحفز لارتكاب الجريمة، وهذا أمر كارثي غاية في الخطورة. علما بأن هذا الطرح يسقط بمقارنة الحالات، فكثير من النساء اللواتي تعرضن للتحرش أو العنف هن محجبات.

في رسالته المصورة قال الداعية والأكاديمي بالحرف الواحد (المرأة تتحجب عشان تعيش)!

إذا تعمقنا في الفكرة أكثر سوف نجد أن هذا التخويف للمرأة هو أكبر انتكاس للمفاهيم حدث في تاريخ البشرية، وقد تم التأصيل والحشد النصي لهذا الانتكاس خلال القرن المنصرم و بشكل ممنهج ومتزامن مع سيطرة الإسلام السياسي.

تم إخراج (الحجاب) من كونه مظهرا يحمل دلالة التوقير والمكانة الاجتماعية للمرأة الحرة تمييزا لها عن الإماء في ظروف زمنية مختلفة، كما هو مؤصل له في القرآن الكريم بوضوح شديد. فتحول إلى إجراء وقائي من وحشية الرجل وانخفاض معاييره الأخلاقية من جهة، وتكبيل للمرأة لمحاصرة انفلاتها وغوايتها من جهة أخرى!

ومع مرور الزمن وتراجع الوعي ترسخت هذه الأفكار المسيئة للرجل وللمرأة حتى تشربتها أفهام الناس دون مراجعة أو تمحيص.

الواقع أن هذه الفكرة دخيلة مستجدة على القيم العربية ولا تشبه قناعات الآباء وطباعهم.

على سبيل المثال فقد استنبط عدد من الفقهاء من (حديث الظعينة) جواز سفر المرأة بلا محرم إذا أمنت وعز رجالها وعلا شأن قومها. ونقرأ في هذا الاستنباط أن الاحتياطات التي تضيق على المرأة وتجتزئ حريتها إنما هي لازمة في حالات الخوف وانعدام الحماية أو ضعف القبيلة أو الدولة.

كما يذكر التاريخ أن القبائل في مكة كانت تمارس وأد البنات تبعا لمكانتها وسيادتها، فالقبيلة القوية العزيزة ذات الشأن كثيرة الفرسان لا تدفن بناتها، أما القبيلة الأقل عددا و الأضعف شأنا فكانت تدفن البنات حتى لا يقهر فيهن الرجال. في الصحراء كانت النساء تخرج برفقة أبناء عمومتهن للرعي والسقاية والاحتطاب ولم يكن واردا أبدا أن يعتدي رجل على امرأة مهما كان لباسها أو مظهرها، كان راسخا في وعي الرجال أن الاعتداء على النساء هو فعل شائن قبيح يحط من الرجولة، هو فعل أشبه باللعنة إذا حلت على رجل فإن العار يطارده وقبيلته إلى أبد الآبدين، بل إن البدوي كان ليؤمن الداخل عليه ولو كان قاتلا لأبيه أو أخيه إذا وصل إلى محرم بيته أو تناول قهوته، هكذا كان الشرف العربي رفيعا عاليا في نسيجه ومعناه، فما كان يضر النساء ما يرتدين على أبدانهن ولم يكن لباس المرأة جزءا من منظومة الأمن أو الفضيلة.

فمن يا ترى أعادنا للوراء سنوات ضوئية ليصبح الشرف يصان كلما أتقنت المرأة سبل التخفي وتعلمت ألا تثير الجلبة، وأن تخفض صوتها كي لا تنتبه لها الوحوش فتفترسها!

لقد ارتبط إخفاء المرأة في ذاكرة العربي بمراحل الضعف والقهر والهوان وقلة النصير، والعكس صحيح.

ولو أنزلنا هذا المنطق السوي على عصرنا لقلنا إنه كلما استقرت الدولة وتمكن القانون و احترمت قيم المواطنة وعز الرجال وتحضر الإنسان كلما امتلكت النساء أفضل الفرص للظهور والاستمتاع بالحياة، واتخاذ القرارات الشخصية دون وصاية أو تهديد أو مخاوف أو تعرض لأي نوع من أنواع الأذى، وهذا هو المعنى الحقيقي لكرامة المجتمع وسيادة القانون. وهو المفهوم العالمي لدى الأمم الإنسانية الطبيعية.

لنبدأ إذاً بالعمل الجاد على تعديل زوايا الصورة المقلوبة، لنعلّم الأطفال احترام حرية المرأة وتقدير دورها في الحياة، لنزرع في وجدان أبنائنا أنهم مسؤولون عن سلوكهم، وأن أخطاءهم لن تلقى على المرأة الضحية. ولنعلم بناتنا السلوك المنضبط واحترام إنسانيتهن وحماية أنفسهن بالقانون. وهذا عمل توعوي تربوي يجب أن تقوم به الأسرة والمدرسة والإعلام.

ثم يبقى العمل الأهم وهو محاسبة كل من يخوف المرأة أو يبرر لإيذائها أو يتنمر عليها سواء أكان رجل دين أو مسؤولا أو حتى مغرد.