ماذا ننتظر من مجتمعات باتت تمجد صاحب العضلات على صاحب العقل، تطير بصاحب اللقطات الأكثر إثارة، وتهمش صاحب العلم؟! ماذا ننتظر من مجتمعات هدت الأبواب وخلعت الشبابيك وسمحت لأصحاب الفتنة أن يغزوها بكل سهولة؟! ماذا ننتظر من أفلام هابطة ودراما مستفزة تقدم العري والألفاظ النابية بحجة أنها تعبير عن الواقعية؟! ماذا ننتظر عندما يصبح البلطجي فنانًا والمهرج مفكرًا والفارغ مؤثرًا؟! ماذا ننتظر من جيل بات يعتبر كل ما يرغب حقًا مكتسبًا حتى ولو على حساب غيره؟! أبعد كل هذا نستغرب ونكتفي بأن نستنكر ونحوقل؟!

للأسف لا يكاد يمر يوم دون مشاهدة شكل من أشكال العنف؛ ذبح، إطلاق نار، قطع رأس! والسبب الرئيس ضمن عدة أسباب متشابكة ومترابطة هو لأن الأطفال كما الكبار يتعرضون لنظام غذائي يومي مليء بالعنف والرذيلة والوحشية والانتقام والقسوة، بل أصبح القاعدة السائدة في الأفلام وعلى غالبية وسائل التواصل الاجتماعي وصفحات الإنترنت!

واليوم تقدم لنا الأفلام الشذوذ على أطباق من فضة، والرذيلة على أطباق من ذهب، والقتل مرصعًا بالألماس، أبطال بلا مشاعر ندم، ولا حتى تبين أن ما يقوم به هؤلاء أمرًا سيئًا، بل يتم تمجيد الرذيلة والعنف والفوضى والقتل!

فمن أجل الترفيه والمتعة تخلينا عن حذرنا تجاه كل ما نستهلكه من خلال ما يبث ويتسلل إلى أذهاننا وقلوبنا وأرواحنا، نركز على ما هو صحي لأجسادنا ونهمل ما نستهلكه نفسيا وروحيًا يومًا بعد يوم!

حقًّا ماذا حدث لنظام القيم لدينا، بما في ذلك التربية الأخلاقية، والذي من المفترض أننا نسعى لغرسه في أبنائنا لتمكينهم من التفريق ما بين الخير والشر، وما بين الحق والباطل؟! ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي محدد وواضح، فالحرام بيّن والحلال بيّن، والخير واضح والشر واضح، ولكن للأسف في هذه الأيام، يختار عدد لا يحصى من مثقفي مجتمعاتنا العربية إعادة تعريف المعاني الأخلاقية من أجل تبرير سلوكياتهم وأنماط حياتهم المتساهلة مع كل المتغيرات التي تحدث عالميًا من حولنا بحجة مجاراة المدنية والتعايش!

في الجزء الأخير من سلسلة كتب إدوارد جيبون الذي تناول فيه «تاريخ تراجع وسقوط الإمبراطورية الرومانية»، ذكر ثلاثة أسباب من الخمسة الرئيسة التي حددها وراء هذا السقوط: انهيار الأسرة، الرغبة الشديدة في اللذة، والانحلال الديني!

لنأخذ نظرة فاحصة لما يدور حولنا، نحن فعلًا نعيش في عصر فقدت فيه القيم! وما هي القيم؟ أليست هي تلك المعايير التي تدلنا على ما هو الصواب وما هو الخطأ! القيم التي توضح ما هو أخلاقي من سلوكيات أو عادات نتبعها، فإن لم تكن متواجدة أو متوفرة بشكل كاف في حياة المرء منذ طفولته، سوف تقوم العناصر الأخرى الموجودة بملء الفراغ، بمعنى إن لم نبدأ من المنزل والمدرسة والمجتمع في التركيز على التربية بالاهتمام نفسه الذي نركز فيه على تعليم المهارات والقدرات والكفاءات، سوف يتم اكتساب كل السموم التي تبث عبر الأثير، وعندها لا يحق لنا أن نستغرب أو نعترض بما أن كل ذلك جرى تحت أنوفنا وبرضانا وتقاعسنا عن التحرك لتغيير الوضع!

لقد عمت مشاهد التدهور الأخلاقي مجتمعاتنا العربية؛ إن ثقافة الجشع والنرجسية التي نشهدها في مجتمعاتنا اخترقت أروقة المدارس والمعاهد والجامعات، وغزت الشركات والمؤسسات ووسائل الإعلام، بل وتغلغلت أيضًا في جسد التنظيم الاجتماعي، فلم يعد يوجد سيطرة على الأعصاب أو الرغبات، وبات يسود المشهد العنف والمزاج السيء والتأفف، وأصبح الأعلى يفرغ غضبه على الأدنى أو الأضعف، والأخطر أنه لم يعد احترام الكبير يهم ولا التعليم يهم ولا حتى الأسرة تهم! وإن سألت الكثير عن هدفهم يكون الجواب المال أو الشهرة أو الاثنان معًا، ولهذا تم اعتبار كل الطرق مستباحة من أجل تحقيق تلك الأهداف، بمعنى «أنا ومن بعدي الطوفان»!

أين نسينا المعنى الحقيقي للإنسانية وأن الإنسان هو الذي يعيش من أجل غيره؟! إنه الشخص القادر على تحمل عبء ماضيه ويعمل على خلق مستقبل أفضل لغيره قبل ذاته، الشخص الذي يشعر بالآخر ويتخطى مشاعره ويتحكم بأعصابه حتى لا يجرحه، إنه مثل شروق الشمس ثابت يبث الأمان ويمد يد العون، وهو القدوة للعزيمة والإصرار يشق الطريق للآخرين حتى ولو كان ذلك على حساب راحته، هدفه هو رضا الله وزرع البسمة على شفاه الآخرين. هذا هو الإنسان الذي يدرك أهمية الأخلاق ودورها ليس على مستوى حياته بل على مستوى المجتمع بأكمله؛ ففي غياب الأخلاق تصبح الحياة الجماعية للإنسان صعبة، ولا يمكن حماية اندماج واستيعاب المجتمع في غيابها.

تقف الإنسانية اليوم على منعطف خطر يتطلب إجراءات سريعة وحاسمة ومنسقة، ويشعر العديد من التربويين ورجال الدين والمفكرين ورجال الدولة بالقلق من الكارثة التي ستضرب مجتمعاتنا العربية إذا لم يتم التدخل بتضافر الجهود والتحرك للمراجعة ودراسة الوضع بكل جدية، ومن ثم وضع الخطط والشروع في تنفيذها لمواجهة هذا الطوفان اللاأخلاقي الذي تغلغل في نسيج مجتمعاتنا؛ بدءًا من الأسرة مرورًا بالمدرسة والجامعة وانتهاءً بسوق العمل.

بالنهاية اسمحوا لي أن أهمس للقائمين على نواة المجتمع؛ «من أكبر الهدايا قيمةً يمكن للوالدين تقديمها لأطفالهم هي الحب العميق ونظام القيم الأخلاقية؛ إنها معايير لا يتعلمها الطفل فحسب، بل سلوكيات يلاحظها ويقلدها وبالتالي يكتسبها أيضًا، لأنه إن لم يتم غرس القيم الصحيحة، تحولت الحياة إلى مجرد صراع وجراح كل شيء فيها مباح»!