الخرائط على الورق شيء؛ وعلى الأرض أمرٌ آخر. والحدود فكرة. والمشهد واسع من إطلالة المكاتب الفارهة، لكنه ضيق الأفق والمساحة في الأراضي الموحلة. والسماء مُلبدة بالغيوم السوداء. وشتاء بعض البقاع قارص. وماء السماء غير مرحب به بمناطقٍ كُثر. وذخيرة البندقية حاضرة لنشر رائحة البارود. والأقلام تحوّلت إلى رماح. وحبر الصحف دماء. والتآخي أصبح مقبولاً حتى مع الشيطان.

والعالم يعيش زوبعة كبرى. ومنطقتنا لا تبتعد كثيراً وليست معزولة. هي على تماس مباشر إلى حدٍ كبير. فالقمح الذي يُنتج منه رغيف الخبز وغير ذلك، بات عنوانًا منافسًا للطاقة والنفط؛ ونحن نُصدّر الثاني ونستورد الأول. والجميع انتقل من وضعٍ سلمي إلى تناحر. ولا صوت يُلغي هدير الطائرات المقاتلة. الواضح، أن العالم مقبل على خصامٍ كبير، يُحتم انقسام القوى لعدة أجنحة، وليس جناحين، باعتبار أن مفهوم القطب والقطب المضاد بات ضربًا من الماضي.

وتلك الصورة تستدعي بالضرورة بناء لا أريد قول ولاءات، إنما جبهة مضادة تملك مفاتيحها دول الاعتدال في المنطقة، ارتكازًا على مقدراتها ومكتسباتها القومية والتاريخية؛ فالوقت قد حان للوقوف صفًا واحدًا من خلال تحالف ردع؛ وليس للاجتماعات المطولة وضياع الوقت، والتنبه لاختيار السلال التي يُمكن أن تستوعب بعضًا من البيض حسب الحاجة، وليس رميه كُله في سلة واحدة. فهذا خطأ يرقى للانتحار.

وحديث العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني قبل أيام لشبكة سي إن بي سي الأمريكية؛ وتأييده إنشاء «ناتو عربي» لم يأتِ من فراغ، إنما كان نتيجة تفاهمات، ناتجه عن لقاء سعودي – أردني، كفله حمل صانع القرار السياسي في الرياض على عاتقه التفكير في لملمة الشتات. كيف؟ بالتكليف الملكي الذي نفذه ولي العهد الأسبوع الماضي في جولةٍ على عدد من دول المنطقة، في إطار خطة واضحة وصريحة.

بل إن حتى دعوة الرئيس الأمريكي لمملكة لحضور اجتماع يضم الدول المؤثرة في المنطقة، تمنحنا فرصة الإيقان بأن السعي السعودي للوقوف على قلب رجلٍ، نابعٌ من استشعار المحافظة على استقرار هذا الجزء المهم من العالم، من التمادي الإرهابي الإيراني الذي وبكل أسف استفاد من الصمت الأمريكي، ومنحه في الوقت ذاته فرصة الحصول على السلاح المحظور دوليًا، ناهيك عن تنامي الإرهاب الشيعي الذي تشكله الميليشيات المسلحة في العراق وسوريا ولبنان، والإشارة الأمريكية التي فهمها تطرف ولاية الفقيه من إزالة ميليشيا الحوثي في اليمن من قوائم الإرهاب.

قد يتساءل البعض، أنه إن كان لدى الرياض ودول المنطقة حالة إحباط من السياسية الأمريكية على سبيل المثال، فلماذا هذا الجهد قبيل الزيارة المزمع أن يقوم بها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جو بايدن لمنطقة الشرق الأوسط في 16 يوليو المقبل؟ وهذا سؤالٌ مشروع. وإجابتي عليه، صحيح أن توقيت الزيارة ذو طابع مهم، نظير ما تمر به المنطقة من تزايد ملحوظ للعربدة الإيرانية. وهذا خطر مُحدق للعالم بأسره. والمنطق يُشير إلى أن بايدن لن يقوم بالزيارة سعيًا منه للبحث عن تطلعات أحد، بقدر ما سيبحث عن المصالح الأمريكية؛ وهذا يمنح الحق لتلك الدول مراعاة مصالحها واستقرارها من منطلق المعاملة بالمثل. فمن يعتقد أو يتصور أنه ممنوع على دولنا البحث عن مصالحها، بينما يحق للولايات المتحدة الحصول على ذلك من خلالنا، فهو واهم كل الوهم وبحاجة إلى مراجعة.

إن ما يجب إدراكه من قبل الضيف القادم إلى بلادي، أن التعامل بندية مع العالم، هي المعادلة التي يفترض على الجميع القبول بها، فلا خيار متوفر غيرها، وتلك الإشارة التي اقتنع بها الشرفاء في محيطنا العربي. وقبل ذلك فالضرورة تقود لتفهّم أن عدم الحياد وتبدل المواقف والنفاق السياسي، فنٌ لا يُجيده السعوديون حكومةً ومجتمعًا، باعتبار ذلك ضمن أخلاقيات نابعة من مفهوم تاريخي كرس له الملك المؤسس عبد العزيز بن عبدالرحمن – رحمه الله -، يتأكد عبر رسائله للرئيس الأمريكي روزفلت حول القضية الفلسطينية، والتي قال في أحدها بكل وضوح «من المستحيل إقرار السلام في فلسطين ما لم ينل العرب حقوقهم، ويتأكدوا من أن بلادهم لم تُعط إلى شعب غريب تختلف مبادئه وأهدافه وعاداته، عن مبادئهم وأهدافهم وعاداتهم في كل شيء». وفي أخرى قال «لا يوجد أي حق لليهود في فلسطين، وأن دعواهم أمر باطل لم يسجل تاريخ البشرية له مثيل».

خلاصة قولي؛ إن المواقف التي لطالما أبدتها دولتي أعزها الله، من خلال حرصها على استقرار المنطقة، نابعة من: المسؤولية الأخلاقية التي يفرضها الثقل الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، والموروث السياسي الذي تركه المؤسس واستمر التعامل وفقه كنبراس وأساس للسياسة السعودية، وهذا ما منحها الحرص والوفاء على الأشقاء والحلفاء.

فلم ولن تتوانى الرياض يومًا عن مساندة حتى من ثبت سواده.

فقد أعانت هذا.

ووقفت في ظهر ذاك.

صدقًا.

لست تحت تأثير عاطفتي

الوطنية.

الأمرُ بيّن.

حتى جراح الخرائط تعرف.

بل إنها شاهدة..

على ما ورثه الحفيد

من المؤسس.