لا يمكن، بل ولا يطيب الحج، من دون التفاكر والتباحث والمناقشة حول أمور فقه الحج، وأذكر أني كتبت عن هذا النوع هنا، بعنوان «المشقة تجلب التيسير.. الطواف بدون طهارة أنموذجا»، قبل نحو 4 سنوات تقريبا، وأيضا قبل 15 سنة بعنوان «فهم النص يحد من اختلاف المذاهب في مسائل الحج»، ومقالات أخرى سواهما كذلك.

سأقسم مقالي، هذه المرة إلى قسمين، قسم عام، والآخر خاص؛ أما العام فهو التأكيد على عدم جواز إلزام الحجاج بمذهب واحد، ولكل حاج الأخذ بفتوى مذهبه وعلمائه، وينبغي ألا تكون هناك حساسية في المسائل الفقهية بين مذاهب أهل السنة وغيرها من المذاهب، وما على المهتم بموضوع «التأهيل العلمي»، إلا أن يهتم بأن يضيف إلى نفسه «التأهيل الاجتماعي»، لأنه إن لم يفعل ذلك استمر في التشدد والتزمت، وأذى الناس أجمعين، وخصوصا في الحج؛ المربوط بزمان محدد، ومكان معلوم، ومن الخطأ الجسيم أن نجتر الفتاوى القديمة بأدلتها لعصرنا الحاضر، ومع الإقرار بأن فتاوى ساداتنا العلماء القدامى صحيحة وسليمة في زمنها، لكن هذا لا يعني أن يتم ترديدها في الوقت الحاضر مطلقا، لأن الواقعية في الفتوى في الأمور الشرعية أمر في غاية الأهمية، ولا بد من استعمال قواعد التيسير في الحج، وكما قال سفيان الثوري، رحمه الله: «إنَّما العلمُ عندنا الرُّخصةُ مِن ثِقَةٍ، فأما التشديدُ فيُحسِنُه كُلُّ أحد»..

القسم الخاص من المقال، سأحصره في موضوع واحد، وهو «طواف الإفاضة للحائض»، والفقهاء سابقاً تكلموا عن المرأة إذا حبسها الحيض، ومنهم الشيخ ابن تيمية فقد سئل، عن طواف الحائض، وملخص جوابه، رحمه الله، كما هو في الجزء 26 من مجموع الفتاوى: لم ينقل أحد عنه، صلى الله عليه وسلم، أمره الطائفين بالوضوء كما أمر المصلين بالوضوء، ونهيه الحائض عن الطواف بالبيت، إما أن يكون لأجل اللبث في المسجد، أو للدخول فيه، وإما أن يكون لكون الطواف نفسه يحرم مع الحيض كما تحرم الصلاة والصيام، واستشهد بقوله، صلى الله عليه وسلم، للسيدة عائشة: «ناوليني الخُمْرة من المسجد»، فقلت: إني حائض، فقال: «إن حيضتك ليست في يدك»، وقال، إن الحائض حدثها دائم، ولا يمكنها الطهارة، ومتى احتاجت للمكث في المسجد والطواف أو القرآن استباحت المحظور، وأضاف متسائلا، بأنه إذا كانت الصلاة تصح في حالة الضرورة من دون وضوء ولا تيمم، فكيف لا يصح طواف الحائض مع الضرورة والحالة هذه؟ ثم قال إن السنة لم تمنع المحدث من المسجد، ومن جعل الطواف كالصلاة في ما يحل ويحرم، فقد خالف النص والإجماع، وأضاف، أنه إذا دار الأمر بين أن تطوف الحائض [طواف الإفاضة] وألا تطوف، كان أن تطوف مع الحيض أولى، وقال إن كثيرا من العلماء كأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه يقولون: إنها في حال القدرة على الطهارة إذا طافت مع الحيض أجزأها وعليها دم، وقال والأشبه أنه لا يجب عليها الدم؛ لأن الطهر واجب تؤمر به مع القدرة لا مع العجز؛ والدم يجب بترك المأمور وفعل المحظور بالاختيار، وهي لم تترك مأمورًا ولم تفعل محظورًا بالاختيار، وإنما هي مغلوبة على أمرها لا تستطيع رفع حدث الحيض عنها، وختم الجواب المطول بقوله ليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة للنص والإجماع ودليل مستنبط من ذلك تقدر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء، فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية، ولا يحتج بها.