المعرفة العميقة بالواقع، وفهم حركته وسكونه، ومشكلاته وتحدياته، وتصور أوضاع الناس وأحوالهم، أمور لا يقدر عليها كل إنسان، وخصوصا من كانت تجاربه محدودة حول محيطه الضيق، أو فهمه الأضيق، ولذلك، وللأسف، تذهب طاقات أغلب من هم كذلك في النزاعات والاختلافات، وتتباعد قلوبهم وعقولهم ونفوسهم.

من وفقه ربه، لسبر أغوار «الخطاب الإسلامي» المناسب لهذا الزمن، سيفهم أنه يقوم على قواطع وثوابت، وأنه في ذات الوقت خطاب متسامح ومتصالح، وسيفهم كذلك قبوله للاختلافات، واتساعه لوجهات النظر المختلفة، وهو الذي جاء صريحا في مواقع كثيرة من خطبة عرفة، لعضو هيئة كبار العلماء، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، ومنها قوله، حفظه الله: «حسن الخلق في (الوصف العام) قيمة مشتركة بين الناس كافة، يقدّرها المسلم وغيره؛ إذ هي سلوك رشيد في القول والعمل، والمسلم -براسخ قيمه- لا يلتفت لجاهل ولا لمغرض ولا لعائق، كما يعلم المسلم أن منازلة أولئك تسهم في إعلاء ذكرهم، ونجاح مشروعهم، وهو ما يسعدون به، بل إن الكثير منهم يعول عليه، غير أن مخاطر التدليس يتم كشفها، مثلما يتم التصدي للإساءة البينة، وكل ذلك يساق بحكمة الإسلام».

الناس اليوم، وبالأخص من يريد أن يعمل لمصلحة الكون، عليه المزيد من التعلم عن أولويات الزمن، والاستزادة من التبحر في ملابسات العصر، والتفاهم على أحكام تناسب العموميات والكليات، وتستطيع أن تفرق بين الوهم والواقع، والأحلام والآمال، ومناطق القوى، وجوانب الضعف، مع استرشاد كامل وتام بما تضمنته الخطبة ذاتها من عبارات أخرى لا تقل أهمية عما قدمت ذكره، وأقصد تحديدا قول عالمنا الجليل: «من قيم الإسلام البعد عن كل ما يؤدي إلى التنافر والبغضاء والفرقة، وأن يسود تعاملاتنا التواد والتراحم، وهذه القيم محسوبة في طليعة معاني الاعتصام بحبل الله، والوحدة والأخوة والتعاون تمثل السياج الآمن في حفظ كيان الأمة وتماسكه، وحسن التعامل مع الآخرين، وهو ما يشهد على أن الإسلام روح جامعة، يشمل بخيره الإنسانية جمعاء، ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، ولذا سما التشريع الإسلامي بإنسانيته التي لا تزدوج معاييرها، ولا تتبدل مبادئها فأحب الخير للجميع وألف قلوبهم، ومن تلك القيم انتشر نور الإسلام، فبلغ العالمين في أرجاء المعمورة، حيث تتابع على تبليغ هذا الخير رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فأثمر هذا الهدي الرشيد أتباعاً مهديين، سلكوا جادة الإسلام، كما كان لأهل العلم الراسخين أثر مبارك في الاضطلاع بمسؤولية البيان، ومن ذلك التصدي للمفاهيم الخاطئة والمغلوطة عن الإسلام».

أختم بأننا أمام عهد فكري مختلف، وتباشيره واضحة، ولن يصلح له إلا من ابتعد عن تمييز الناس بما يؤدي إلى الفرقة والفتنة والانقسام والازدراء، أو يؤدي إلى تفضيل شخص أو طائفة أو فئة أو جماعة، على أسس عنصرية، ولن يصلح له كذلك إلا من كافح بصدق وإخلاص، خطابات الكراهية والتمييز، ضد الأشخاص أو الطوائف أو الفئات أو الجماعات، وضد السلوكيات والأفكار العنصرية، ونشرها وتأييدها، وضد من يهدد السلم المجتمعي؛ مع المعاقبة بكل قوة لهواة ذلك ومحترفيه.