تقود عربتك في الشارع لتلاحظ فجأة بأن صاحب المركبة التي خلفك قد التصق بك بشكل مستفز، تسارع إلى الحكم بأنه يريد رفع ضغطك حقدًا وغيرة على نوع مركبتك مقارنة بما يمتلكه! تطلبين من زوجك أن يشتري لك شيئًا ما من السوق لكنه يعود وبيده شيئًا آخر، تسارعين في الحكم بأنه يصر على تجاهل رغباتك لإثارة غيظك! تتابع ابنك في الدراسة وتحرص على أن يحصل على أفضل التعليم، وتفاجئ بأن درجاته متدنية، تحكم بأن ذلك تمردًا عليك لإثارة غضبك!

نحن كبشر عادة ما نمر بحالات يتم فيها إهمالنا أو تجاهلنا أو ربما نواجه حالات نرى فيها أننا ظلمنا أو أحرجنا، أو حتى دفعتنا سلوكيات البعض إلى مرحلة الغليان والغضب، هنا من السهل جدًا افتراض النوايا السيئة من الآخر، فنحن ننسى أو نعتم في ذاكرتنا على عدد المرات التي تعاملنا فيها مع الآخرين بطرق مماثلة! ألا يشهد الواقع بأنه كثيرًا ما كنا نقع بالخطأ لأسباب عدة كالنسيان أو الإهمال أو الارتباك أو التشتت أو قلة الخبرة أو التعب أو سوء الفهم أو حتى عدم الكفاءة للقيام بالعمل المطلوب، تمامًا كما يحصل مع غيرنا؟ فهل هذا يعني أننا كنا نبيت النوايا السيئة في التسبب في أذية الغير؟!

ما يجب أن يحصل هو قبل أن نحكم لنتوقف ونُحكِّم العقل قبل المشاعر، كي نتجنب القفز إلى الاستنتاجات التي ترسم الأشياء في ضوء سلبي، خاصة عندما تكون هناك تفسيرات بديلة معقولة لأفعال شخص أو مجموعة أو حتى مؤسسة أو منظمة، وبهذا نستطيع أن نفهم أسباب تصرفات الآخرين بشكل أوسع وربما أدق، لأن ذلك يسمح لنا برؤية الغموض (في الصورة ككل)، ويبعدنا عن اللجوء إلى الافتراضات المتسرعة، وبالتالي يمنع ردود الفعل السلبية غير المبررة ويفتح الباب أمام التفاعلات المثمرة.

ماذا نفعل عادة عندما لا تسير الأمور كما تخيلناها أو توقعناها؟ بدلًا من الشعور بالفضول ومحاولة التعلم من الموقف، نفترض في أذهاننا أسوأ الاحتمالات! فاعتمادًا على كيفية رؤيتنا للحدث، نشتق تفسيرًا ونخلق قصصًا في أذهاننا تتوافق مع معتقداتنا؛ فمن خلال التعايش مع الواقع الذاتي المبني على كيفية رؤيتنا للأشياء من منظورنا، نقدم حججًا غير منطقية ونصدر أحكامًا غير دقيقة، ونتخذ قرارات غير عقلانية!

ولكن هنالك حل، ألا وهو القدرة على النظر إلى ما هو أبعد من زاويتنا الشخصية؛ أن نتخيل الموقف من منظور الشخص الآخر، أي اللجوء إلى الحيادية والتي تتطلب استخدام أداة إرشادية تم تسميتها بـــ «شفرة هانلون»، ويقصد بـألـ «شفرة» تلك التي تستخدم للتخلص من الزوائد بطريقة الحلق، وهي عبارة عن, نموذج من النماذج العقلية التي تساعدنا على فهم المواقف قبل اتخاذ الحكم، بحيث لا نفترض بأن الآخر تصرف بدافع الرغبة في إحداث ضرر، طالما أن هنالك تفسيرًا بديلًا ومعقولًا، أي ألاّ ننسب أبدًا إلى النوايا السيئة ما يمكن أن يُفسر بشكل كافٍ مثل الضعف بالخلفية المعرفية أو عدم الكفاءة أو الإهمال أو سوء الفهم أو الكسل أو خلل في إرسال أو استقبال التعليمات أو غير ذلك من الأسباب المحتملة.

كما ننشد الإنصاف لأنفسنا، الآخر أيضًا يستحق أن يُعامل بإنصاف وتفهم، وإذا تمكنا من فعل ذلك لأجل الأشخاص داخل دائرة حياتنا، سيؤتي ثماره بشكل كبير، ليس فقط من خلال تحسين علاقاتنا معهم على المدى القريب والبعيد، بل أيضًا بإحياء المشاعر الإيجابية مثل التعاطف والتسامح، والتخلص بنفس الوقت من المشاعر السلبية مثل الغضب والتوتر، للتمكن حينها من التركيز على التواصل السليم، فعندما نفترض بأن الشخص الآخر تصرف بدافع النية السيئة قد يؤدي ذلك إلى عدم الإصغاء والرفض؛ وبهذا يمكن لفخ السلبية أن يمنعنا من الوصول إلى الآخر، ويجعلنا نبتعد ونتجنب التفهم والتعاون؛ ونصل إلى حد أننا نفوت على أنفسنا الفرص التي قد تفيدنا في تحسين الوضع داخل الأسرة، بيئة العمل، أو المجتمع.

لنتذكر أن سلوك الناس، في معظم الأوقات، ليس له علاقة بنا، فنحن نبني روايات غير صحية وغير مفيدة في رؤوسنا!

لنتوقف عن التفكير في أن الأمر كله يتعلق بنا وبأننا نلعب دورًا محوريًا في قصة كل شخص داخل دائرة حياتنا سواء الأسرية أو العملية أو الاجتماعية، بينما غالبًا ما تكون الحقيقة هي أن سلوك الناس ليس له علاقة بنا! فمثلًا بدلّا من اتهام الزوج بالإهمال، أو الابن بالتمرد، أو زميل العمل بالكسل أو سائق الطريق بالحقد والحسد، فقد يكون من المفيد فهم كيف يمكن توصيل المعرفة والتوقعات المتعلقة بالسلوكيات المطلوبة من الشريك أو الابن للتقرب، أو من زميل العمل لتحسين الإنتاجية ورفع مستوى الفاعلية، أو إطلاق إشارات التنبيه للسائق خلفك فقد يكون مجرد شارد أو تركيزه مشوش لأمر هام يشغله.

لنكن أكثر تعاطفًا بحيث نرى كل شخص على أنه إنسان بتركيبة معقدة؛ يتعامل مع مشكلاته بطريقته الخاصة، وليس مجرد شخصية جانبية في قصصنا! فنحن لن تتمكن من بناء علاقات صحية مع الأسرة، أو تحقيق الكثير في بيئة العمل، أو أن نتفاعل بشكل صحي وسليم مع أفراد المجتمع حولنا، إذا كنا نعتقد أن الآخرين يخططون لإثارتنا وإغضابنا أو تدميرنا، وبالتالي نتسبب بإضاعة الوقت والطاقة بالتركيز على الأمور السلبية الخاطئة بدلًا من التواصل المجدي لإيجاد الحلول.