ما بــين الرجال والنساء العديد من الفوارق الخلقية والاجتماعية، فمن الواجب إبداء رأي مجمل عن الصفات، التي تنسب الى المرأة خاصة، ويظن أنها انفردت بهـا أو تفوقت فيها على الرجل، وهي على خلاف ذلك في الحقيقـة أو في رأي بعض المفكرين.

فمن أولى هذه الصفات تذوق الجمال. ويلوح لنا أن جمهور الناس متفقون على اعتقاد أن المرأة أسلم ذوقـا من الرجل وأقرب فطرة الى الحسن الجميل، فهي أخبر بتمييز شيات الحسن وسمات الملاحة حيث كانت. ولا يبنون هذا الاعتقاد على تجربة محققة وآثار معروفــــة، في الدائرة التي يظهر فيها التفوق في تمييز الجمال وإبراز معانيه وهي دائرة الفنون الجميلة، أو في عالم الأزياء التي تتجمل بها المرأة وتتهالك على اقتنائها، ولا تبتكرها هي لنفسها وإنما يبتكرها لها الرجال، ويدوم تعلقها بها على قدر استحسانهم والتفاتهم إليها، ولكنهم يبنون رأيهم في إيثار المرأة بهبـة الذوق الجميل على أنها هي نفسها جميلة في نظر الرجل، فيسبق إلى وهمهم أن الجميـل في النظر لا بد ان يكون مفطوراً على الجمال، عارفا بأشكاله ومناظره صادق الحكم في نقده وتمييز ألوانه ودرجاته. وهو وهم لا حاجة بنـا الى الإسهاب في نقضه وإظهار بطلانه، إذ كان من الحقائق المسلمة أن الجمال لا يؤتي صاحبه قدرة على الفهم في موضوعـه المتعلق به ولا في غيره من الموضوعات، وليس باللازم من كون الشيء جميلاً أنه ذو دراية بالجمـال وإحساس به، فإن من الجمال ما يكون في الجماد ومنه ما يكون في النبات، ومنه ما يكون في الإنسان، القدم الذي لا ذوق له، وفي الطفل الصغير، الذي لا عقل له. فمن الخطأ أن يظن بالمرأة سلامـة الذوق لمجرد أن الذوق السليم يرتضي النظر إليها، ويستحب محاسنها، كما أن من الخطأ أن نظن مثل ذلك بالفاكهة التي نستلذها والزهرة التي نأنق لها والصورة التي نعجب بها.

وإذا جاز أن يتخذ جمال المرأة علامة على صفة ما، فأولى بذلك الجمال أن يدل على سلامة ذوق الرجل وحسن تمييزه. لأن المرأة قد خلقت جميلة كي تروق في عينه، وتتمكن من قلبه فهو المقصود بمحاسنها وإليه المرجع في اختيار المستملح من شمائلها وترك المذموم من عيوبها، وهو لا يقصد بذلك إلا إذا كان هو المفطور على حب الجمال واشتهائـه، وهو الممتاز بالقدرة على نقده وانتقائه. وقد لوحظ أن المرأة تعنى بسلامة الأعضاء ـ كل عضو على حدته ـ أكثر من عنايتها بجمال الأعضاء وحسن تناسبها في مجموع شكلها، فإذا نظرت إلى الرجل تفرست في كل جارحـة من جوارحه وتأملت في تركيبها، تأمـل الطبيب الذي يفحص أجزاء الجسم لا تأمل الناقد الفني الذي يلتفت إلى عموم الشكل ثم إلى نسبـة كل جزء منه إلى جملة أجزائه. ومعنى ذلك أن النزعة النفعية أغلب على مزاجهـا من النزعة الجمالية الفنية، وأنها تنظر إلى جسم الإنسان نظرهـا إلى جهاز مركب لأغراض مفيدة، لا إلى دمية معبودة أو تمثال وسيم من صنعة الفن الجميل.

على أن الجمال نفسه ليس بالمزية المسلم بها للمرأة كل التسليم، ولا بالحكر الخالص لها المحرم على غيرها.

فهذا شوبنهور مثلا ينكره عليها بتة، ويزعم أن المرأة على العكس مما يظن الناظر إليها دميمة قبيحة، فإذا تخيلناهـا حسناء فاتنة فهي الغريزة الجنسية التي تزيغ بصرنا وتطمس على بصيرتنا، فتلهينا عن عيوب خلقتها كما يلهينا الجوع والظمأ عن عيوب الطعـام الخبيث والشراب الكدر! ودارون يعترف لها بالجمال ولكنه يميـــل إلى تفضيل جمال الرجل على جمال المرأة، ويقيس ذلك على عطل الإناث وروعة منظر الذكور في كثير من المخلوقات.

ومقام شوبنهور في الفلسفة ومقام دارون في العلم كلاهما في أعلى مكان.

والرحمة من أخص مناقب المرأة التي تنسب إليها.

وكأني بسائـل يبادر مستغرباً فيقول: وكيف لا ؟؟ أفي ذلك شك أيضا ؟؟

: أما أنا فلا شك عندي في رحمة المرأة إذا دعتها الطبيعة إلى الرحمـة. ولكن يشك في ذلك كاتب من أذكى من نبغ في هذا العالم، وأعني به تلميذ شوبنهور «أوتو ويننجر» الألماني صاحب كتاب «المزاج والجنس، الذي أفرده للكلام في العلاقة بين الجنس والأخلاق، فأتى فيه بالعجب من براعة التفكير واستقامة الملاحظة.

فهذا الفيلسوف الفتي يرى أن المرأة مطبوعة على القسوة وبلادة الحس ولا دليل له على ذلك ـ فيما أذكر ـ إلا مـا يتخـذه الناس دليلا على شدة عطف المرأة ورقة قلبها وعظيم شفقتها.. دليله على قسوة المرأة أنها تصبر على مراقبة المرضى وخدمة المصابين وملازمة فراشهم، ولا يكون هذا إلا من آيات الطبع البليد والقلب المغلف، لأنها لو كانت تعطف عليهم عطفاً صادقاً وتكره أن يتألموا، لما أطاقت الصبر على سماع أنينهم وإطالة النظر إلى سماء العذاب والألم في وجوههم، ولكنها لا تشعر بالعطف الصادق ولا تؤلمها الشفقة كما تؤلم نفوس الرجال، فلا تحاول أن تبعد من أسرة المرضى كما يفعل الذي يؤذيه أذاهم وتوجعه أوجاعهم، وهذا تأويل صبرهـا على التمريض ومؤاساة الجرحى والترفيه عن الموجعين، أما أن شفقة المرأة غير شفقة الرجل فذلك ما لا ريب فيه، وأما أن ملازمة المرضى دليل على الخلو من الشفقة ففيه رأي آخر.

وأولى بذلك عندي أن يكون دليلا على الاستغراق في عاطفة الرحمة لا على الخلو منها، لأن من شأن الاستغراق في عاطفة أن يذهل صاحبه عما حوله، كما يذهـل العـاشق الواله عن موجبات البغض والنفرة من معشوقـه، فإذا هو ينجذب إليه بما حقه أن يبعده منه ويفتنن فيه بما لعله أدعى إلى البغض والكراهية.

1923*

*كاتب مصري «1889- 1964»