أثناء عملي وزيرًا مفوضًا في السفارة المصرية في ألمانيـا، قمت بزيارة لمدينة أخـن (عـاصـمـة إمبراطورية شارلمان) ولجامعتها الشهيرة، فدعاني مديرها إلى الغداء معه. قلت له إني لاحظت في عجب ودهشة كيف أن بناتي الثلاث اللواتي تلقين تعليمهن منذ روضـة الأطفال في المدارس الألمانيـة في الدول التي عملت ديبلوماسيًا فيها، لم أرهن يومًا في أية مرحلة من مراحل الدراسة، يشرعن في حفظ قصيدة لغوتة أو شيلر أو هايني، أو يقرأن رواية لتوماس مـان، أو مـسـرحـيـة لـهـافـرتمان، في حين تحرص المدارس الفرنسية والإنكليزية أشد الحرص، خارج فرنسا وبريطانيا، على ربط تلاميذها بثقافتي هاتين الدولتين وحضارتيهما، وترى في الأدب خصوصًا أنجح وسيلة لتحقيق تلك الرابطة.

أجـاب بـقـوله: إن النـخـبـة الألمانيـة بـعـد هزيمة هتلر عكفت جادة على دراسة الأسباب التي أدت إلى ظهـور النازية في ألمانيـا واحـتـضــان الشعب لـهـا، فـقـادها البحث إلى نتـيـجـة مذهلة، هي أن منابع الثقافة الألمانية بأسرها هي منابع مسمومة كان لا بد أن تسفر في النهاية عن ظهور هتلر ورفاقه وحزبه، وأن هذا السم ليـس قـاصـرًا على أمـثـال نـيـتـشه وشبنغلر وفـاغنر، وإنمـا يـتـعـداهـم إلـى غـوتـة وهايني، وباخ وبـيـتـهـوفن، وكانط وشـوبنـهـاور، وسائر أعلام الآداب والفنون والفلسفـة في التاريخ الألماني، حتى إن بدا الكثيرون من هؤلاء الأخـيـرين أبعد الناس عن احتضان المبادئ الفاشية، وأقربهم إلى الروح الإنسانية والفكر الديمقرطي، لذا فـقـد مالت المدارس والجـامـعـات إلى أن تضرب بمثل ذلك التراث عرض الحائط، وأن تخلفه وراء ظهرها، وإلى أن يكون تركـيـزهـا من الآن فـصـاعـدًا على العلوم والرياضيات.

ثم تمضي الأيام والأعوام، فأراقب ما شهده العالم في العقدين الأخيرين من القرن العشرين من انهيار النظم الشمولية من يسارية ويمينية، وتمزق شمل الاتحاد السوفياتي والأنظمـة الشـيـوعـيـة في دول أوروبا الشرقية، وانتصار الليبرالية والديمقراطية والتعددية، وتزايد قوة الدعوة إلى حرية العقيدة والفكر، ثم أنظر فأجد العالم الإسلامي وحده، بما فيه من أقطار عـربـيـة، هو الذي بقي بمنأى عن رياح التغيير التي هبت على أقطار الدنيا بأسرها عداه، قد استعصى عليه قبول مبادئ الديمقراطية والتعددية، ولا تزال هيئاته تمارس في إصـرار، ومن دون حـيـاء نشاطها الشيطاني في تجريم الفكر الحر، وتحريم الرأي المخالف، وتصـادر أو تحـرق الكتب، وتغلق صحف المعارضة، وتمنع عرض الأفلام والمسرحيات، وتقضي محاكمها بتطليق الزوجات من أزواجهن الذين قضت بتكفيرهم على رغم من شهادتهم لا إله إلا الله.

وأسائل نفسي الآن وقد قفز إلى ذاكرتي حديثي مع مـديـر جـامـعـة أخـن الـعـام 1982: لماذا الـعـالم الإسلامي وحـده من دون شعوب الأرض قـاطبـة هو الرافض العنيد الذي أقـام سـدًا مـنيـعًا دون رياح التغيير؟ لماذا باكستان دون الهند وشعباهما في الأصل شعب واحـد؟ هل ثـمـة في تراثنا وتقـاليـدنا وثقافتنا عناصر أصيلة وكامنة ومطبوعة تحول -وستظل دومـا تـحـول- دون تقبلنا للديمقراطيـة والتـعـددية والليبراليـة والفكر الحـر؟ هل يمثل ذلك التراث وتلك الثقافة، بمختلف عناصرهما، ينابيع مسمومة على نحو الصورة التي صورها الأستاذ الألمانى للثقافة الألمانية؟ وهل تشمل تلك الينابيع المسـمـومـة حـتـى مـن نـعـتـبـرهـم مـن أعـلام حـضـارتنا السالفـة من أصحاب الفكر الحـر كـالجاحظ، وأبي حيان التوحيدي، وابن رشد، وإخوان الصفا؟ وهل نحن في حاجة من أجل التحرر من ربقة تلك القيود، والتخلص من هذه السموم، إلى كارثة من نوع كارثة الهزيمة الألمانية المروعة العام 1945؟ كارثة ملموسة مفاجئة حالة، لا كتلك الكارثة البطيئة الممتدة وشبه الخفية التي نعيش اليوم في ظلها من دون أن يتنبه إلى أبعادها غير القليلين من مفكرينا؟

1996*

* كاتب وديبلوماسي مصري «1932 - 2014»