بِرُّ الوجيه عبد المقصود محمَّد سعيد خوجه (1343-1444هـ) بأبيه وراء مشروعٍ ثقافيٍّ كبيرٍ وجليلٍ طُوِيَتْ صفحتُه بوفاته.

عَرَفَتِ الحياةُ الأدبيَّةُ والصَّحفيَّةُ محمَّد سعيد عبد المقصود (1324-1360ه‍ـ) رئيسًا لتحرير صحيفة «أُمِّ القرى»، الصَّحيفة الرَّسميَّة للدَّولة، وأُمّ الصُّحُف السُّعُوديَّة = وكاتبًا أدبيًّا، ومُصْلحًا اجتماعيًّا يُذيع في النَّاس مقالاته في النَّقد الأدبيّ، والتَّاريخ، والآثار، والاجتماع، والتَّربية، وسَرعانَ ما تبوَّأَ مكانةً ساميةً في الحياة الأدبيَّة التي كانتْ، آنئذٍ، تخطو خطواتها الأولى في النُّهوض والتَّحديث.

فاجَأَ الشَّابُّ محمَّد سعيد المجتمعَ بتضلُّعه الواسِع مِنَ الثَّقافة والتَّاريخ، وأثارَ فُضُولهم بالفُصُول الأدبيَّة والنَّقديَّة التي ينشرها في صحيفتَيْ «أُمّ القرى» و«صوت الحجاز»، وعلى أنَّ سنة ميلاده 1324هـ تجعله مِنْ أدباء الرَّعيل الأوَّل؛ أولئك الذين عَرَفَتْهم ثقافتُنا يومَ أذاعوا شيئًا مِنَ الشِّعْر والنَّثْر في كِتابَيْ (أدب الحجاز) - 1344هـ - و(المَعرِض) - 1345هـ = فإنَّنا لا نقرأ له شيئًا فيهما، مِثْل صديقه ورفيق دربه أحمد السِّباعيّ - وُلِدَ سنة 1323هـ - لكنَّ تُراثه يدلُّنا على أنَّ محمَّد سعيد كان مِنْ أعلام المثقَّفين والصَّحفيِّين في عَصْره؛ وأنَّه أوَّلُ رئيس تحريرٍ لصحيفة «أُمّ القرى»، مِنْ أبناء البلاد، لكنَّه يمتاز بشيء جديد وطريف، مِنْ بين أقرانه؛ شيءٍ يجعله ذا مشروعٍ ثقافيّ، أوْ صاحِب قضيَّة ثقافيَّة، يَصْدُر عنْ عقلٍ يُوَجِّهه نحوَ غايةٍ كان قدْ أَعَدَّ لها عُدَّتها، وأدارَها في خياله قبل أن يَخُطَّها على الورق ويُظْهِر عليها القُرَّاء.

كان هَمُّ محمَّد سعيد عبد المقصود أن يَصِلَ حاضِر الحجاز بماضيه، أن يَكُون مؤرِّخًا لأدوار الأدب التي مَرَّ بها، ولعلَّه - بهذا المعنى - أوَّلُ مؤرِّخ أدبٍ في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة؛ فالفُصُول التي نشرها، تِبَاعًا، في صحيفة «صوت الحجاز»، ومِنْها بحثه «الأدب الحجازيّ والتَّاريخ» الذي استهلَّ به كِتاب (وحي الصَّحراء) - 1355هـ = 1936م - هي أوَّلُ دراسةٍ عِلْمِيَّةٍ مُنَظَّمةٍ لتاريخ الأدب في الحجاز، منذ العصر الجاهليّ حتَّى العصر الحديث، ولمْ يَكُنْ ذلك العمل بالهَيِّن اليسير، ولا ريب أنَّ تلك الفصول أنبأَتْ عنْ ثقافةٍ أدبيَّةٍ لا يستهان بها، وبَصَرٍ حديدٍ بالتَّاريخ ومناهجه، وقُدْرةٍ على أن يستلَّ مِنْ ذلك الأدب الواسع، والتَّاريخ الفَسِيح ما يختصُّ إقليمًا بعينه، وهو الحجاز، فكانتْ، بِحَقٍّ، عملًا أدبيًّا وتاريخيًّا رائدًا.

وأحسب أنَّه لن يستقيم لمؤرِّخٍ أوْ باحثٍ التَّأريخُ لمكَّة المكرَّمة في عصرها الحاضر، دون الرُّجُوع إلى مقالات محمَّد سعيد عبدالمقصود في التَّاريخ الحضاريّ والاجتماعيّ للبلد الحرام، وفيهنَّ استكملَ المؤرِّخُ الشَّابُّ مسائلَ ذوات شأنٍ في تاريخ المياه والآبار والسُّيُول، لا سبيل إلى معرفتنا بها إلَّا بالرُّجُوع إلى فُصُوله ومقالاته، يُضاف إليهنَّ فُصُولٌ أُخَرُ لا تَقِلُّ عنها خطرًا في التَّربية، والتَّعليم، والآثار، والأزياء، والعادات والتَّقاليد، وأوَّل عَهْد المكِّيِّين بكُرَة القدم.

على أنَّ التَّاريخ الأدبيّ في المملكة لن ينسَى لمحمَّد سعيد عبد المقصود ورفيقه عبد الله عُمَر بلخير سَهْمَهما الذي مضى بأدب هذه البلاد بعيدًا، بعد أن اجتازَ طَوْرَ البدايات، فكان كِتاب (وحي الصَّحراء؛ صفحة مِنَ الأدب العصريّ في الحجاز) - 1355هـ = 1936م - فصلًا مهمًّا في الحياة الأدبيَّة والثَّقافيَّة في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، أُرِيدَ مِنه تصدير الأدب في هذه البلاد النَّاشئة، والتَّعريف به.

2 –

بَرَّ عبد المقصود أباه محمَّد سعيد بلونٍ جديدٍ وغريبٍ مِنَ البِرِّ، وكان مِمَّا غارَ في عَقْل الابن فليس ينساه أنَّ الأدباء والمثقَّفين كانوا يجتمعون في مكتب والِده في صحيفة «أُمِّ القرى»، ويَخُوضون في شُؤون الأدب وشُجُونه، حتَّى إذا أَقْبَلَ موسِمُ الحجِّ أنشأَ الأبُ الأديبُ الشَّابُّ محمَّد سعيد عبد المقصود يُحْيي اللَّيلة الثَّانية مِنْ ليالي عيد الأضحى المبارك بأماسِيَّ أدبيَّةٍ وثقافيَّةٍ، يَدُعو إليها أدباء الحُجَّاجِ ومُثَقَّفيهم، ويَصِل الأرض المقدَّسة بألوانٍ مِنّ الأدب والثَّقافة جديدةٍ، فدَبَّ في أوصال النَّاشئة نشاط جديد.

كان الابنُ عبد المقصود يرى كُلَّ ذلك، وكانتْ ذاكرتُه تختزنه ولا تنساه، ولا ريب أنَّ قَدْرًا كبيرًا مِنَ الزَّهْوِ والفَرَح قدْ تَسَرَّبَ إلى فؤاده الغَضِّ، وعساه كان يؤمِّل أنْ سيُثْمِر جِهاد أبيه في الثَّقافة ويُؤْتِي ثِمَارَه بعدَ حِين، لولا أنَّ الموت عاجَلَ والِدَه محمَّد سعيد، وهو لا يزال في صَبْوَة شبابه، فتوفَّاه الله – تبارك وتعالَى – إليه وهو في السَّادسة والثَّلاثين، وكان عبد المقصود يوم مات أبوه في السَّابعة عشرة، فأيُّ أَلَمٍ كانَ؟ وأيُّ غَصَّةٍ كانتْ؟

خَفَّضَ الشَّابُّ عبد المقصود مِنْ حُزْنه، وكَفْكَفَ مِنْ دُمُوعه، ومضَى في حياته، موزَّعَ الفؤاد، دَرَسَ، وعَمِلَ، وطَوَّفَ في البلاد، وسالَمَتْه الحياةُ وما عاكَسَتْه، فبُوِّئَ مِنَ الوظائف أسماها، وبَلَغَ في التِّجارة والمال والثَّراء مرتبةَ كُبْرَى، ونالَ ما تَمَنَّى، وذُكِرَ في الأعيان. لكنَّه لمْ يَنْسَ والِده الذي اخترمَه الموتُ شابًّا؛ لمْ يَنْسَ اجتماع الأدباء والمثقَّفين في مكتبه، ولا تزال ليالي مِنًى تُعَاوِده، ويَزْدهيه الفَخْر كُلَّما أَقْبَلَ على (وَحْي الصَّحراء)، ولَبِثَ على ذلك زمنًا، يُسَايِرُ الحياةَ، ويُضْمِر في نَفْسه أمرًا طالما تَرَقَّبَه، فلمَّا اطمأنَّ به المقامُ في مدينة جُدَّة، أدرك أنَّ ساعة البِرِّ بوالده قدْ دَقَّتْ، وأنَّ عليه أن يُتِمَّ مشروعه، وأوَّل ألوانه أن يَبَرَّ أصدقاءَ والِده وزملاءَه مِنَ الأدباء والمثقَّفين، وأن يختصَّ الذين نَشَرَ كِتاب (وحي الصَّحراء) صَوْب عُقُولهم بمزيد اختصاص، فلمَّا كانتْ سنة 1403هـ = 1982م هداه تفكيره إلى أن ينشئ في دارته «منتدى الاثنينيَّة»، وأن يُكَرِّم الأدباء السُّعُوديِّين الرُّوَّاد مِنْ رُفقاء والده، وكان مِنهم بقيَّةٌ يومَ قَدَّرَ ودَبَّرَ، وأعاد نَشْر ذلك الكِتاب الرَّائد، فلمَّا طَوَى الموت صفحة ذلك الرَّعيل تَوَصَّلَ إلى لونٍ جديدٍ وطريفٍ مِنَ البِرِّ؛ أن يَطبع الأعمال الكاملة المنشورة وغير المنشورة، لكُلِّ أديبٍ له مشاركةٌ في (وحي الصَّحراء)؛ الكِتاب الذي كان والِدُه ثاني اثنين تَوَلَّيَا جَمْعه ونَشْره، وأدَّى إلينا مجموعاتٍ كاملةً لجمهرةٍ مِنْ أولئك الأدباء، سواءٌ مِنْهم المشاركون في (الوحي) أوْ غيرهم، فكان مجموع آثار «الاثنينيَّة» في مشروع التَّكريم ونشْر الأعمال الكاملة في عشرات المجلَّدات وآلاف الصَّفحات = لونًا جديدًا وطريفًا مِنْ ألوان البِرِّ، متى ما وَصَلْنا الابن بأبيه، وصورةً فذَّةً لعصاميَّة عبد المقصود وإرادته الصُّلْبة. وما كان سبيلُه ممهودًا، وما كان مُوَطَّأً، لكنَّه أَخَذَ على نَفْسه عهدًا بأن يُتِمَّ ما بَدَأَهُ أبوه، ويَشُقَّ للثَّقافة طريقًا وعرًا، كان فيه غير مسبوقٍ، وإذا بـ «منتدَى الاثنينيَّة» يُجاوِز مُحِيط (وحي الصَّحراء)، فيَبْلُغ أقطارَ الوطن العربيّ كُلَّها، وكانتِ «الاثنينيَّةُ»، هذه المؤسَّسة الثَّقافيَّة الَّتي أنشأَها رَجُلٌ عِصَاميٌّ، والتي طُوِيَتْ صفحتُها بوفاته = صُورةً فريدةً ونادرةً لبِرِّ الابن بأبيه!