بلغ الخمسين وقرر أن يسمي نفسه (نورس) لأن النورس ليس صقراً فيطمع أصحاب (البيزرة) في ترويضه واضعين البرقع على عينيه، وليس حمامة يطمع أولاد الحارة في صيدها بالمنطاب، والنورس يشرب (الماء المالح) إن اضطره الزمن، مسافراً مهاجراً من قارة إلى أخرى، جامعاً بين صفات (الحمام في لطافة الشكل، والأوز في أناقة العوم، والجوارح في الافتراس)، وقد راز نورس نفسه في الكتابة متخيلاً أنه يكتب في جريدة «الوطن» منذ عشرين عام فقال:

«لن أغفر لنفسي ما حصل، ففي عيد ميلادي الخمسين، تناولت (صخرة طانيوس)، قرأتها لعلها تعيد الشغف نفسه والشعور الوجودي الباهر قبل عقدين، كل هذا تبدد شاهدت الرواية بخطوطها العريضة، بوضوح أكبر يشبه نظرة الطبيب لصور الأشعة وتحاليل الدم، فما الذي حصل؟ وهل يمكن تعميمه على كل الحياة؟».

الذي حصل كما أتوقع- والكلام لنورس- أني كنت منغمراً في شبابي بتفاصيل الأشجار والأزهار والطيور والحشرات والبشر الذين التقيتهم في (غابة الحياة)، كان معي صديقي (الشاعر) في إحدى العواصم العربية القديمة، ركبنا (باص صغير) شاهدنا فتاة جميلة من ضمن الركاب، تأملنا جمالها بتبتل لطيف، وصلنا لمكان نزولنا، بدأنا السير على أقدامنا، قلت له: هل تعلم مدى احتمال اللقاء بركاب الباص الصغير مرة أخرى؟ قال: تقصد الفتاة؟ قلت: الفتاة وبقية الركاب، فكر في سؤالي قليلاً ثم استرسل: نسبة رؤيتها تعادل نسبة عدد سكان العاصمة إلى واحد ولو أضفنا لها عدد أيامنا التي نقضيها هنا فالنسبة تقريباً صفر، فطرحت له احتمال أنها مسافرة لمدينة أخرى فتبسم وقال: هل رأيت أنك مشغول بجمال الفتاة وليس ببقية ركاب الباص، قلت: إذا هذا (الجمال) تركناه دون وداع، لكننا بالحديث عنه نمنحه تأبيناً لائقاً بفراقه للأبد، إن جمالها أصبح مركز النظر لنا دون أن نحتاج (غوغائية) التزاحم والصراخ في مدرج روماني، بل كانت صدفتنا الجميلة أننا شاهدناه عن قرب بمساحة باص صغير، دون أن نخدشه (بالبحلقة) أو يربكه صراخ الجماهير فيفقد براءته وطبيعيته، لقد كانت (مارلين مونرو بملامح عربية) بلا فلاشات وشهرة تؤدي للانتحار لمن سرقت منه الأضواء (بوصلة الروح).

دخلت سوريالية الخمسين، بدأت أشاهد الغابة على شكل خريطة وجغرافيا وأنشغل بالأحوال الجوية، لم تعد تعنيني تلك التفاصيل القديمة الصغيرة، كل الأشجار سيصيبها الجفاف إن لم تهطل الأمطار، وإن هطلت الأمطار أكثر من اللازم فستجرفها السيول والفيضانات (ملالا) استحقت جائزة نوبل لأنها واصلت تعليمها بعد أن قتلوها، ورجعت كطائر الفينيق، محلقة تخرج من رماد رصاصهم الذي اخترق الجانب الأيسر من جبينها بامتداد الوجه، بينما مواصلة التعليم لفتاة في جغرافيا أخرى مجرد تكرار سهل لروتين يومي ممل، إن ما تراه في غابة الصنوبر من طيران الفراشات سيكون بطولة عظمى لفراشة وسط الصحراء، أو (وردة في صقيع الثلج)، كم يصنع اختلاف الجغرافيا والتاريخ من فوارق تضغط الضعفاء باتجاه (التسليم بقهر الأقدار) أما سلالة الأبطال من بني هلال، فساروا (إلى مصر فتونس ثم الأندلس) صنعوا أسطورة تغريبتهم (وأبو زيد الهلالي) دليلتهم.

كبرت ودخلت الخمسين وصورة الكاتب في جريدة «الوطن» تنطق (كاذبة) بالثلاثين مبتسماً على الرغم من أنف الوقت، وكلكل الصغار/ كبروا الآن، لم أرافق في حياتي سوى الشعراء لأنهم الوحيدون من يملك قدرة جذبك إلى غريزة الحياة (إيروس)، وإبعادك عن استعدادك الفطري العقلاني لغريزة الموت (ثاناتوس)، وقوتك في إدراك زوايا النظر لضعفك، لكن الشعراء مرهقون بكثرة الصحاب والطلاب، تواصلهم نرجسي لكن فاتن، مزاجيين وأنت تتوافق معهم فقط في (المزاجية)، إنهم رمز لحياة لهجاتنا/بلبال لغتنا التي اعتنقتها أرواحهم بشكل لا يستطيعه سواهم، حتى لو وجدت مستشرقين أعضاء في مجامع اللغة العربية وستجد، فقد فعلها من العجم المستعربين قبلهم (سيبويه)، لكنك لن تجد مستشرقاً يكتب شعراً عربياً يتجاوز حدود النظم إلى موسيقى المعنى، فهل عرفنا سر فخر القبيلة بولادة شاعر، فبالشعراء يمتد قاموس من حياة اللغة إلى عنان السماء في أرواح الشعوب والقبائل، أكرر: يمتد قاموس حياة اللغة بالشعراء فقط وليس الناظمين ومجامع الخالدين.

إنها الموازنة بين طموح العادي والموهبة، كأن تكون قريباً من البلاط كما حصل للجواهري محمد مهدي، فتأبى عليك عبقريتك إلا الشعر والحرية، ولهذا لا يعرف الناس الوزراء في العراق كما عرفوا الشعراء، فهل عرفنا لماذا قال: حسن العلوي لتركي الدخيل (أنا كاتب) ولست (سفير)، ولكن يا حسن مهما بلغت موهبتك الرفيعة، وهي رفيعة فعلاً، فلن تبلغ العبقرية الصادقة لأخيك (هادي العلوي).

كبرت ودخلت الخمسين، ولا أريد الاستماع لنصائح أحد عن (العمر مجرد رقم) فقد أدركني ما أدرك هشام شرابي عندما حكى في مذكراته أن الصبايا قديماً كانوا يسألونه (كم الساعة؟)

من باب المجاز لفتح الحديث مع شاب وسيم في مثل سنهم، ومع تقدمه في العمر أدرك حقيقة أن السؤال لم يعد مجازياً، بل هو فعلاً (كم الساعة/ كم الوقت) ومن يتوهم غير ذلك فمتصاب و لا يريد أن يعترف أن العمر في كثير من الحالات (وعي بالزمن وتحولاته)، وهذا الوعي هو ما يصنع الفرق في إدراك (المتعة الأفضل لكل فترة عمرية)، ومن لا يريد الاعتراف بضرورات (الرشد والحكمة) باعتبارها وصفاً أنيقاً (لنقص الفتوة)، سيشعر بذل المراهقة المتأخرة (أرقص يا صديقي كما تشاء ما دام جسدك يحتمل الرقص، لكن لا ترهق الوردة بمراقصة الغصن الجاف)، ولاحظ الفرق بين أن تعيش أنيقاً نبيلاً محتفلاً بالحياة ومتعها حد الثمالة حتى تنطفئ بهدوء، أو أن تعيش متصابياً يعصر ماء الورد على أوراق خريفه، ومن لا يعرف الفرق فستصيبه رصاصة (ألا تستحي يا عم) إن كان فيه (دم).

أجمل عبارة تقرأها في وسائل التواصل لكاتب لن تعرفه يقول فيها: (إن الحياة رياء ممتع) وأظن هذا ما اقترفته في هذا المقال، فكأنما أصبحت انعكاساً للغة هذا الزمن لترى أن العالم على مستوى (القشرة العليا) يتشابه فما تراه عبر (السناب مثلاً) في الهند سترى ما يشبهه في الأرجنتين أو فرنسا ربما اختلاف البشرة أو لون العيون والباقي التفاصيل نقسها (مأكولات، مشروبات، كادحين، ماركات، عروض إيروسية)، ولكن تحت هذه القشرة المتشابهة يغلي العالم بصراعاته التي تؤكد لك أن قوانين حمورابي منذ آلاف السنين لم تقدم شيئاً للبشرية مهما أكدت على أن (السن بالسن والعين بالعين) فالمهم دائماً هو (الشعور) بالعدالة، أما العدالة في ذاتها فيوتيوبيا، والرهان على (مكر التاريخ) إن صدق هيجل، لننتقل من صراع الأديان القروسطي/ الطبقات الماركسي/ الليبيدو الفرويدي/ الانتخاب الدارويني، إلى شيء ليس فيه وهم (نهاية التاريخ)، فالتاريخ ليس إلا امتداد البشرية في الأبدية، ويبقى أقصى الحلم أن يصل الإنسان إلى هارموني يمزج أجمل ما في الأيديولوجيا مع أجمل ما في الميثولوجيا، لنعيش حياة كالموسيقى التي جمعت ما بين منطق (الرياضيات) وسديم (الكاوس).