والحروب أقسى أنواع الدروس، سياسيًا وعسكريًا، وحتى اقتصاديًا واجتماعيًا. وهذا ما يدفعنا لاعتبار حفلة الدم والاقتتال على الأراضي السورية؛ بمثابة جرحٌ دام بالنسبة للبشر والحجر، وحتى للخرائط، كونها فتحت المجال واسعًا لأن تتحول البلاد لمنطقة تقاسم نفوذ. هي – أعني الحرب في سوريا على وجه التحديد - مقيته في عدة أمور؛ الأول: في فتح المجال للطائفية والاقتتال على حساب المذهبية. والثاني: اتساع رقعة الفروقات العرقية والإثنية. ثالثًا: إلغاء مفهوم الدولة كعنوان عريض جامع للجميع تحت كيان الوطن. رابعًا: أنها أعطت المتمردين التابعين للجمهورية الإيرانية، كحزب الله والميليشيات الشيعية الأخرى، فرصةً كبرى لاكتساب خبرات حربية وقتالية، وهذا يعد خطرًا محدقًا، على العالم أجمع وليس على منطقةٍ معينة.
والقاعدة السياسية التي ذكرت سابقًا، لجأت لها تركيا كما يبدو، ودخلت مجال المراجعات من أوسع الأبواب. تريد أنقرة الاقتراب من الجميع، وتصفية الخلافات العالقة مع دول المنطقة. فقاعدة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي دخل على أساسها للقصر، كانت «صفر مشاكل».
صحيح أن هذا المبدأ انقلب بعد أن وضعته الإدارة التركية جانبًا، وتحول إلى «صفر أصدقاء» في مرحلةٍ ليست ببعيدة. لكنها كما يتضح وبافتراض حسن النوايا، عادت إلى تصحيح الأسلوب السياسي الذي انتهجته مع دول المنطقة. ما يشير إلى ذلك، هو إشارات أردوغان مؤخرًا عن سوريا؛ ومصر. قال الرجل «ليس لنا أي أطماع في الأراضي السورية. الشعب السوري شقيق لنا. يجب أن يكون النظام في دمشق على علم بذلك». ولم يستبعد فتح حوار مع الدولة السورية ونظام بشار الأسد، وهذا يترجمه قوله «أن الدبلوماسية لا يمكن قطعها بالكامل مع الدول». وفي هذا الأسلوب السياسي الأقل حدة عن السابق، رسالة يريد إيصالها أردوغان لنظام الأسد في دمشق.
والسؤال، ما الذي دفع الحكومة التركية للعودة عن مواقفها السابقة في مقابل النظام السوري؟ قبل الإجابة على السؤال، يجب فهم أن لسوريا طابع يتمتع بكثير من الخصوصية بالنسبة لتركيا، كونها دولة مجاوره وتربطهما حدود تمتد لقرابة ألف كيلو متر؛ وتلك المساحة لطالما كانت ملتهبة، نظير وجود قوات سوريا الديمقراطية المكونه من أكرد وعرب وتركمان وسريان، بالإضافة إلى الـ«بي كي كين، وواي بي جي»؛ وهي التكتلات التي تقف عائقًا أمام القوات التركية على الدوام، وتمنعها من إحراز أي تقدم وانتصارات ضد تلك المكونات، وتشكل بالنسبة لأنقرة صداعًا يؤرقها ويستنزف قدراتها العسكرية، ويؤثر إما بالإيجاب أو السلب فيما يتعلق بالانتخابات. أما الجواب على التساؤل المطروح آنفًا: يظهر بأن مصالح أنقرة في سوريا تبخرت مع تنامي توغل الدب الروسي في البلاد. ومن ثم يبدو أن تركيا وصلت إلى حائط مسدود من خلال الخصومات – والتي في أغلبها مفتعل – مع دول المنطقة، ووجدت نفسها في ميزان الربح والخسارة لم تجن أكثر من الخسائر الواضحة؛ التي انعكست على الداخل التركي وطالت الاقتصاد والتنمية.
وفيما يتعلق بالعلاقة مع القاهرة، فذلك ذو تفسيرات أخرى تختلف جذريًا عن سابقتها – أقصد سوريا -. يقول الرئيس التركي «لا يوجد خلافات مع الشعب المصري. العلاقات على المستوى الرفيع ليست في مكانها الصحيح. نأمل أن نأخذ خطوة بأفضل الطرق نحو مستويات أعلى في وقت سريع».
لم يوجه رسالته للإدارة المصرية، على عكس الرسالة الموجهة لدمشق، وهذا ما تحكمه معطيات كل ملفٍ على حدة.
فوفق ماهو مفهوم عن الخلاف التركي المصري؛ فهو مبنيٌ على أرضية جماعة الإخوان المسلمين «الإرهابية» ولا أسباب غير ذلك. ترى أنقرة أن الجماعة المارقة لها حق المشاركة في السلطة، بل إنه ليس من حق الشعب المصري الانتفاضة عليها.
وما أريد استيعابه في السياسة التركية، هو كيف ترى أنه يحق للشعب السوري الانتفاضة على نظام حكمه، ويجد السوريون المساندة منها، وتحرم الأمر على الشعب المصري الذي استدعى الدولة لازاحة تلك العصابة عن سدة الحكم؟.
على مستوى شخصي، لا أريد أن أقول تناقض - من باب الأدب والالتزام- حتى إن رأيته كذلك، وهذا ذو اعتبارات أخلاقية، تقوم على كوني أتفهم الرغبة التركية في تصحيح العلاقة مع المملكة وأسير وفق هذا المنظور، لكني سأسميه مرونةً في السياسة التركية الحديثة، التي لا تريد إحراق جميع أوراقها دفعةً واحدة. وهذا حق من حقوقها.
عند هذا الحد، الضرورة تستدعي الاستدراك والقول، إن للتقارب مع بلادي المملكة العربية السعودية؛ دورٌ في إعادة الدولة التركية للنظر في سياساتها، وبالتالي وضع دمشق والقاهرة على قاموس أردوغان.
على الأقل من ناحية تعليق الجرس، والمكاشفة،وإيضاح الأخطاء،وربما أكثر من ذلك مما لا أفهمه ولا أعيه.
والسلام.