يعج عالم العقار بالصالح والفاسد مثل أي مجال آخر، ولا يُلام المرء مهما كان، في طموحاته وهمته بعمله رغبةً في تحقيق الاكتفاء المادي الذي يحلم به، لكن شريطة ألّا يُلحق الضرر بغيره، فلا ضرر ولا ضرار.

نعيش في مملكة الخير والعز والرخاء، مملكة أشبه بِقارّة، فيها مساحات شاسعة نُحسد ونُغبط عليها، ورغم وجود الأكفاء من أصحاب الثقة والضمير والأمانة والجودة في عالم العقار، إلاّ أننا ابتُلينا بمجموعات «شلَليّة» موجودة بينهم، أسالت حبر كثيرين ممن يَغيرون على وطنهم، إلا أنه لا بد من الحديث عنهم وعن تأثيرهم السلبي في كل فرصة عسى أن يأتي الحديث بنتيجة.

هذه المجموعات في عالم العقار تمتهن المراوغة والتأثير السلبي الذي يقصم الظهور ويحد من خيارات السكن، وأصبح البعض يسيئون إلى التسويق العقاري حتى يلجأ الناس لاختيار ما وجهوهم إليه مُجبرين غير مُخيَّرين بطريقة غير مباشرة، فجُلّ الناس اليوم بحاجة لبيت ستر وسعادة، يلبي الحاجيات الأساسية من اتساع وراحة، لكن تلك المجموعات يفضلون بحبوحتهم المالية على أي شيء آخر، وإن كان من حقهم التمتع بفوائد مالية جراء أتعابهم في هذا السوق، لكن في المعقول وبما لا يضر غيرهم وزبائنهم.

لقد صارت الموضة في عالم العقار وخصوصا لدى هاته الفئات الترويج لثقافة البيت «مختصر المساحة» بحجة «الطراز الجديد»! هي في النهاية قضية أذواق ومتطلبات وفروقات تعتمد على القدرة المالية للمشترين، لكن أن يتم تحديد الخيارات بتخطيط مسبق في هذا النوع من المساكن، بتغييرات طفيفة بين منزل وآخر والترويج لها بعبارات براقة ومحاولات إقناع مستميتة بجمال هندستها، وغيرها من عبارات العقار التي أصبحت مستفزة لعدم مطابقتها للواقع وعرضها في النهاية بأثمان باهظة، هو ما لا يتقبله العقل، فيصير الفرد مُخيرا بين قروض مستمرة لنهاية العمر من أجل مسكنٍ كريم، أو الاتجاه لأحد هذه الخيارات «الهشة» ومع ذلك يدفع من أجلها أضعافا مضاعفة تسبب الضغط النفسي المزمن لمشتريها.

أصبحنا نرى اليوم كراتين مزخرفة باهظة الثمن، بتكلفة بناء الأرض التي قد لا تتجاوز ٥٥ % من سعر المنزل المعروض، فيصبح الربح أضعافا وهو ما جعل الزبون يفقد الأمل في إيجاد بيتٍ يناسب ذوقه وعائلته ويجنبه الوقوع في ضغوط مالية طويلة الأمد، لكن لعبتهم انكشفت وصار العرض اليوم في سوق العقار أكثر من الطلب، لأن الناس لم تعد تلجأ للاقتراض وتحمل الضغوط المالية المتراكمة في ظل ارتفاع تكلفة المعيشة التي يشهدها العالم كله دون استثناء، وهذا ما دفع هؤلاء وباتفاق بينهم، لاعتماد خطط تسويقية بديلة تعتمد على الجانب النفسي للناس، فقد وصلت الحرب النفسية اليوم في هذا المجال إلى مستويات عليا من الأساليب والحيل، فقط من أجل إيهام الناس بأن هذه المنازل تباع، والأسعار الحالية المجنونة مقبولة وبديهية، والعروض المميزة تفوتهم حتى يتم تحفيزهم نفسيا للقبول بخياراتهم التي حددوها سابقا ضمن دائرة مغلقة وبأسعار تناسبهم هم دون غيرهم.

إن الجانب الأكثر ألماً في هذا الموضوع هو جودة هذه العقارات، فلم يكتفِ أفراد هاته المجموعات بالوقوف عند حد «المساحة المختصرة» للبيوت، بل صاروا يستثمرون بأسوأ جودة حتى يضمنوا أرباحا خيالية عند البيع بالأسعار المرتفعة المعروفة حاليا، ومن أجل ذلك يبالغون في وصف منتجاتهم ويدعمون إعلاناتهم بسيناريوهات مزيفة وشعارات براقة، لإيهام الباحثين عن سكن بجودة ومُناسَبة الأسعار لما يقدمونه من عروض، متناسين أن «كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام».

إن وجود هذه الفئات في عالم العقار حتما لا يعني غياب أصحاب الضمير من رجال الأعمال والمستثمرين، الذين يخدمون وطنهم وأبناءه بإخلاصٍ فيما يرضي الله، ويقدمون أفضل الخدمات بأسعار مناسبة، وهناك مخلصون الذين لم يجدوا خيارات ممتازة في المساحات، فعملوا بأقصى الاستطاعة وبأصدق الضمانات حسب المتوفر، وفي النهاية طابقوا الأسعار مع واقع معيشة المواطنين وجعلوها معقولة وفي المتناول، كما أن الدولة تعمل جاهدة لإنهاء كل السلوكيات والأعمال السلبية في تطوير وتسويق العقار في كل إجراء وتعامل عقاري.

رسالتي هذه ربما لن تحرك شيئا في نفوس ومخططات أفراد هذه الفئات، فقد سبقنا بمثل هذا النقد خبراء كبار، ولكن ربما نُؤثر ولو في فرد واحد داخل هذه المنظومة، لعلّه يراعي ضميره، ويتجنب إضرار الناس.