الناقد البصير لا يقيد نفسه بسلاسل المنهج، وهذا ما كان يتبعه الطاهر، فصارت مقالاته هي الأقرب لكل قارئ.

العنوان، ما هو إلا دراسة صادرة مؤخراً عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق، للناقد العراقي الدكتور سعيد عدنان، ويصح أن نطلق عليها من السطور الأولى إنها «نقد النقد».

لعل اللافت في الأمر هو العنوان الذي يفتح شهية التساؤلات: ماذا يعني بالناقد المقالي؟ وهل النص النقدي قابل للنقد؟ أم هناك خصوصية لنقد شيخ النقاد علي جواد الطاهر؟ ولمَ التفت الناقد سعيد للمقالات لا غير؟ وما أهمية المقالة النقدية التي تنشر في الصحف، والمجلات؟ وهل بوقتنا الحالي فقدت قيمتها؟

علي جواد الطاهر (1919 - 1996) آمن بأهمية المقالة النقدية وتأثيرها في القارئ، ومجتمعه، وما يضيء به عتمة النص الأدبي فيقول الدكتورسعيد «فصار يُنتظر رأيه في كل ما يصدر من شعر، وقصة، ومسرح أيضا». فما المؤهلات التي امتلكها الطاهر؛ لتكون مقالته ذائعة الصيت ولها جهمور قارئ؟ يقف المؤلف في العتبة الأولى لدراسته عند مقالة للطاهر بعنوان «النقد السهل» فهل هو كذلك!! فيرى شيخ النقاد إذ كان النقد ما يكتب وما ينشر في الصحف فإنه سهل! لكنّه ليس نقداً! وأن من يسمون نقاداً ليسوا نقاداً. فهل الطاهر يناقض نفسه في هذا الرأي، وهو من يكتبُ مقالات نقدية في الصحف؟ للوهلة الأولى يظن القارئ كذلك، فيحكم بالتناقض على الطاهر. وهذه القضية لم تكن غائبة عن سعيد، إذ يورد بعدها مقالة أخرى يكمل بها ما بدأه الطاهر عن سؤال النقد، والمقالة بعنوان «ألف شرط وشرط» يوضح فيها الفارق بين الناقد، والكاتب الصحفي، ويُلبس الناقد ثوب النقد، وفق معايير، ومقاييس، لا بد أن تتوفر بمن يقبل على الميدان، وفي طليعتها: الموهبة «وهي مما لا يُكتسب مثلها، مثل موهبة الشاعر هذا ينشأ النص، وذاك يفهم النص، ويفهمه للآخرين وعلى الأقل يعيد خلقه من جديد». ويمكن عدّ رأيه السابق الحجر الأساس في البناء النقدي، فالأدب والنقد موطنهما الإبداع، وهذا الأخير لا يأتي إلا من الموهبة. فالناقدــ وفق ظنيــ في الأغلب شاعر أكل تفاحة الشعر، فطرد من جنته، وصارت مهمته التبشيرية هي: خلقُ نص نقدي يوازي النص الأدبي.

والأهم «يفهم النص ويفهمه للآخرين» إذن شرط النقد الإفهام، فالطاهر يعلم بعلة النقاد الذين يصعدون في برجٍ عاجي ويخاطبون القرّاء، بلغة متخمة بالمصطلحات، تعقّد النص أكثر، وتزيد من غموضه ويظنون أنها براعة! والنفس تتعلق بالمعنى القريب منها، وغموض الكتابة يطرد القارئ من النص النقدي. ولا نبتعد عن ألف شرط وشرط، فالثاني يمكن عده محركاً لبوصلة النقد هو «أن يكون الناقد مصلحاً اجتماعياً.

وهو شرط يعلو بمكانة الناقد ويخرج به من إطار النص إلى إطار المجتمع وذلك شأن جليل» يلفت نظرنا إليه سعيد وكأنه يشير إلى جوهر النقد من خلال رأي الطاهر السابق، فيقول معقباً عليه «لقد تحقق للناقد أن يكتب أدباً نقدياً بكتابة هذه المقالة، وأسارع فأقول إنه أدب نقدي يضيء النص، ويزيد القارئ فهماً وليس انطباعات تصور مشاعر الكاتب وحدة». فهنا جملة نقدية كاشفة، وهي ثمالة الكأس، وزبدة المخاض النقدي فيها، يقدمه كل من علي جواد الطاهر، وسعيد لكل مقبل على عالم الإبداع.

صاحب الدراسة لا يغفل عن روح المنهج، فهل الطاهر كان يؤمن بمنهجٍ نقدي محدد؟

يقول: «إن مزية المنهج تتجلى لدى أعلامه المؤسسين، أما لدى الأتباع فإنه تطبيق يخلو من الروح في كثير من الحالات ولا يجهل الطاهر هذه المناهج لكنه لا يريد أن يكون تابعاً لمنهج منها، إن العلم بهذه المناهج نافع يزيد الناقد بصيرة وخبرة، ويرهف ذوقه غير أن متابعة منهج ما متابعة حرفية لا تتيح للناقد أن يسبر أغوار كل النصوص لأن النصوص متنوعة المناحي ثرية الأعماق، وكل منهج إنما يلقي ضوءاً على ناحية بعينها من النص ويغفل عن سواها».

إن الرأي السابق يضع خصوصية لكل نص أدبي بمعزل عن الآخر، فالناقد البصير لا يقيد نفسه بسلاسل المنهج، وهذا ما كان يتبعه الطاهر، فصارت مقالاته هي الأقرب لكل قارئ. ويمكن أن تدرس ضمن نقد النقد. دراسة الدكتور سعيد عدنان فاحصة، ومنقبة، لمقالات الطاهر النقدية، وهي تزيد من أهمية المقالة التي تنشر بالصحف، لكن وفق شروط شيخ النقاد.

* نافدة عراقية