رحلة طويلة من التطور والمراوحة، امتدت لما يقرب من 50 عاما حتى استوى معرض الرياض الدولي للكتاب على سوقه، واستطعنا أن نقول، بمثل هذا المعرض 2022، يحق لنا أن نفاخر مثيلاته الإقليمية والدولية، لأنه يعكس حقيقة حجم السعودية، وثقافة أبنائها ووعي قرائها، وحجم الحركة العلمية والثقافية والفكرية والأدبية المصطخبة في مسارب حياتها، وحجم الحركة الشرائية لروادها التي تعد الأعلى عربيا، حتى كان أصدقاؤنا الناشرون العرب يقولون: إذا خسرت في مشاركاتك بمعارض الكتب العربية عوضها في معرض الرياض.

لم نتأخر كثيرا زمنيا في أن يكون لنا معرض دولي، فأول معرض دولي نظمته جامعة الملك سعود كان قبل 45 عاما (1977)، في حين كان عمر معرض القاهرة 53 عاما (1969)، ولا يقارنان بعمر معرض فرانكفورت 583 سنة (1439)، وطبيعي أن تتطور المعارض وتكبر، ففي القاهرة بدأ من أرض الجزيرة، وكان ضخما وقتها متواضعا بمقاييسنا الحالية، ثم انتقل إلى مدينة نصر والآن بالتجمع الخامس، ومعرض الرياض كانت محطته الأولى تحت مظلة جامعة الملك سعود ثم وزارة الثقافة والإعلام، وانتقل في 2020 إلى وزارة الثقافة، حيث مكانه الطبيعي.

تعدد جهات الإشراف أدى إلى عدم انتظامها رغم الجهود الكبيرة والعمل الدؤوب فيها؛ وذلك نظرا إلى عدم وجود إستراتيجية واضحة لها، وبالتالي عدم وجود ميزانية كافية ورؤية محددة لها سوى فتح المجال للناشرين من الداخل والخارج، وفتح دكاكين لبيع الكتب وبعض المحاضرات وورش العمل، التي صممت لأن تكون هامشية بالمعرض.

غير أن المشكلة الحقيقية، التي كانت تعيق تطورها، هي عدم وجود سياسة ثابتة واضحة وصارمة ودعم حقيقي، فأدت إلى تذبذبها صعودا وهبوطا لأسباب، منها غزوات المحتسبين السنوية على الإنترنت قبل المعرض وعلى أرضه فترة انعقاده، وأصبح بقاء الكتب في دور النشر يخضع لدرجة تركيز الحملة عليها، كأن يأتي أحد المحتسبين الشعبويين وحوله مريدوه فيهجمون على دار نشر معينة، ومعهم قائمة مسبقة بأسماء الكتب والمؤلفين، ويجبرون دور النشر على سحبها، وتسبقها حملة منظمة لتهييج الناس على مواقع التواصل الاجتماعي، وتضطر الجهات المشرفة إيثارا لتجنب المشاكل إلى سحبها، فكنت تعجب كيف تمنع كتب الوزير غازي القصيبي، وهو الذي يدير بفكره وزارات مفصلية بالدولة، ويزداد عجبك حين يفوز عبده خال بجائزة البوكر ولا يجرؤ الناشر على بيع الرواية إلا من تحت الطاولة ويكتب تعهدا بعدم بيعها، في حين يتلقفها السعوديون في المعارض الخليجية كالشارقة وأبوظبي.

وخذ ما شئت من القصص في هذه الكوميديا السوداء، ومع ذلك يعبر المشرفون على المعارض بها إلى بر الأمان، مع ما يلقونه من عنت وسط كل هذا الصخب المفتعل والمعارض المنقولة من فضاء الإنترنت إلى ساحة أرض المعارض، من جامعة الملك سعود إلى مركز المعارض قبل انتقالها إلى واجهة الرياض.

معرض 2022 بقاعتيه الضخمتين يذكرك للوهلة الأولى بسرايات معرض القاهرة وقاعات فرانكفورت الست الكبيرة، غير أن الأهم في الموضوع أمران، أولهما: تحول المعرض من دكاكين في سوق بيع الكتب إلى معرض ثقافي حقيقي تتوافر فيه العناصر الأساسية لهذا النوع من المعارض، مع اختلاف في درجة عنصر كل منها، فالمعرض هو أساسا موقع لعقد الصفات بين دور النشر العالمية وبيع الحقوق والوكالات للترجمة والنشر والتوزيع، وهو منبر للحوار وتبادل المعرفة والمثاقفة، واستشراف المستقبل لهذه الصناعة، والترفيه الثقافي..

وبذلك لا يقتصر على الكتاب الورقي فحسب، بل يتضمن جميع أوعية المعرفة والترفيه بمختلف الوسائط، وهذا ما بدا في حضور الثقافة بمختلف تجلياتها عبر هيئاتها الثلاث عشرة، كما أن المعرض هو المحيط الذي يحتضن كل المؤتمرات الإقليمية والدولية للنشاطات المتعلقة بصناعة الكتاب والثقافة، فالناشرون الدوليون يضبطون روزنامتهم على تقويم معرض فرانكفورت، واتحاد الناشرين الدوليين يعقد اجتماعه السنوي في جنبات المعرض.

الأمر الآخر هو عودة فسح الكتب إلى مناخه الصحي ومرجعيته الحقيقية، فالفسح يتم عبر آلية معروفة والاعتراض كذلك وفق قنواته المعلنة والواضحة، واختفت -تبعا لذلك- المهازل التي كانت تحصل على مرأى ومسمع من أصحاب العلاقة، فالكتب كانت تفسح بمعيارين: فسح داخلي وفسح المعرض، والكتاب الذي يستغرق أشهرا لفسحه داخليا تفسح بالعنوان في المعرض، وما يمنع داخليا يتم تمريره بالمعرض، واستفاد الناشرون من هذه الفجوة بينهما فيحضرون ما يشاءون، ويبيعون مالا يفسح ولا يباع لدور النشر المحلية من تحت الطاولة أيضا، وتشحن من الدور السفلي إلى الخارج بهدوء وسلاسة لتباع على مدار العام، ولذلك جاءت فكرة أن يتحمل الناشر مسؤولية إدخال كتبه عبر الفسح المسبق، تحت طائلة المحاسبة والعقاب إذا خالف قواعد الفسح، فتجعله أكثر حرصا ومسؤولية وأبعد عن الاحتيال.

وبخلاف تطور مفهوم المعرض والفسح وسعة المكان فإن التنظيم الدقيق والتوزيع الرقمي لأجنحة المعرض دون الدخول في متاهات الأسماء، والأجهزة الرقمية العديدة للبحث والكتابة والإبداع تظل سمة فارقة لهذا المعرض، وتبقى هناك تفاصيل تخضع لوجهات النظر، وأخرى تحتاج إلى تطوير كتوزيع دور النشر حسب الدول وحصر الأجنحة الحكومية في مكان موحد وعدم استئثارها لمساحات كبيرة وفخمة شكلا، ولكنها فقيرة من حيث المحتوى، باستثناء القهوة والتمور وبعض النشرات البسيطة التقليدية، والمقاطع الدعائية وما يصاحبها من انتدابات وخارج دوام.

هل تنبثق عن المعرض أكاديمية مثل أكاديمية فرانكفورت.. أم أنها ستكون إحدى التجليات المختلفة وغير المستنسخة لهيئة الأدب والترجمة والنشر؟ لأن نجاح معرض 2022 يجعلنا نرفع السقف عاليا ليكون بحجم تطلعاتنا غير المحدودة، وبقدر الهمم الكبيرة للقائمين عليه، تلك التي جعلتنا رؤية 2030 لا نرضى بغير السماء سقفا.