في الأنظمة الديمقراطية لا يوجد رجال دولة. هناك من يمكن أن يستفيد من الصدف، وأصوات الجماهير، وقد يكون شخصًا أحمقًا، يملك كثيرًا من صفات الرعونة. فالنظام السياسي المذكور يكفل لهذا الصنف، أن يتسيد على جميع أنواع البشر، بصرف النظر عن أوضاعهم الاعتبارية. لذا في الغالب ما تكون – دول ذلك المنهاج السياسي – مصدرًا للتعامل بمنطقية أحادية مع الأصدقاء.

وإن كان هذا الأسلوب من حليفٍ افتراضي كما تمثله الولايات المتحدة الأمريكية في ميزان علاقتها المتذبذب مع المملكة، فالشعور يشوبه بعضًا من خيبة الأمل. وهذا يعود لعدة أسباب، أبرزها أنه ربما البعض من صناع القرار في تلك العاصمة، تسيطر عليهم الغيبوبة السياسية، التي ستؤدي بهم يومًا ما إلى طريق الرحيل، مع البقاء كأسرى لتاريخهم الذي خطوه بأيديهم، ورهن محاسبة مواطني دولهم.

حديثي هذا اليوم عن ارتفاع النبرة الصادرة من الإدارة الأمريكية ضد المملكة، على خلفية قرار تحالف «أوبك بلس» خفض إنتاج النفط عند حدود مليوني برميل يوميًا. والبحث في خلفيات الأزمة التي ربما نشأت بجهلٍ أو جهالة، سيأتي لاحقًا. لكن قبل ذلك يجب القول أنه لطالما وعبر التاريخ كان خط العلاقات السعودية – الأمريكية، رهنًا للحزبية، واختلاف المزاج السياسي في الولايات المتحدة.

ومعلومٌ أنه تارةً يطالب مسؤولين أمريكيين بمحاسبة الرياض نظير أسباب مفتعلة؛ هدفها مكاسب سياسية داخلية، وتارةً أخرى يتشدق أعضاء في مجلس الشيوخ والكونجرس بحفظ أمن السعودية، وأن بلادهم كفيلة بذلك، أو قد كفلت ذلك منذ عقود. وهذا كذب وافتراء على الشعب الأمريكي قبل غيره، إذ يعي رجال الاستخبارات الأمريكية ماذا يمكن أن تجنيه واشنطن من استقرار علاقة بلادهم بالرياض، والشواهد كثر على ذلك ولا مجال لحصرها.

ومن ثم فإن المملكة، بالنظر إلى التفاصيل بواقعية، هي من تعمل بطريقةٍ غير مباشرة على ثبات النظام في واشنطن، من خلال الالتزام بامداده بالطاقة، التي لو قُطعت يومًا واحدًا عن أحد الولايات الأمريكية، لاشتعلت البلاد، ولاضطرت الدولة للجوء إلى مخزوناتها الاحتياطية، بما يسبب إرباكا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

أتصور أن من ملأوا الدنيا ضجيج في واشنطن على خلفية إقرار تحالف «أوبك بلس»، يجهلون أن الهدف منه الحفاظ على استقرار أسواق النفط العالمية، وأنه يعمل على تحسين أوضاع المستهلكين والمنتجين في آنٍ واحد؛ بالإضافة إلى الحد من تقلب الأسواق، والإبقاء على الأسعار مستقرة عند حدود المائة دولار للبرميل. هذا من جانب. ومن آخر، فإن مقدار التخفيض الذي تم اعتماده من إنتاج ثلاث دول خليجية «السعودية – الإمارات – الكويت» لا يتجاوز 800 ألف برميل. بمعنى أن كل دولة خفضت إنتاجها اليومي بمقدار 266 ألف برميل.

إذن من خلال الإمعان بالأرقام التي لا تكذب في أغلبها، يتضح أحادية المنطق الذي ذكرته مطلع هذه السطور، والذي انتهجته الولايات المتحدة الأمريكية ضد المملكة، برغم أن القرار تم اتخاذه من قبل منظمة دولية مكونه من 23 دولة.!

لكن لماذا استشاطت واشنطن من القرار؟

أولاً: لأن ذلك يأتي قبل شهر من موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، المؤثرة على الانتخابات الرئاسية في 2024. ثانيًا: لسد باب ذريعة مواجهة الخصوم السياسيين من الجمهوريين للرئيس الديمقراطي جو بايدن، واستغلالهم هذا الملف كإثبات فشل في السياسة الاقتصادية له ولحزبه. ثالثًا: الخشية من أن يتسبب قرار خفض الانتاج، بارتفاع أسعار الوقود والغاز، الذي سيشكل كارثةً على الإدارة الحالية، لا سيما في هذا الوقت تحديدًا، بعد أن اتخذت قرار تخفيض أسعار الوقود تدريجيًا الصيف الماضِ.

والسؤال المهم في نظري؛ لماذا وجهت الولايات المتحدة الأمريكية سهامها تجاه السعودية.؟ الجواب؛ أولًا: لأن الرياض أوحت بشكلٍ أو بآخر للعالم بأسره وليس لواشنطن على حدة، أن مفهوم ومعادلة القطب الواحد لم تعد تنفع لهذه المرحلة من الزمان، وأنه يجب النظر إلى أوراقٍ بديلة، على رأسها تعدد الأقطاب، (وهذا ما تستغله واشنطن بالترويج أن المملكة مُتحيزة لروسيا.. وما إذا آمنا بأن هذا القول فيه بعض من الصحة، فيجب التذكير بأن إيران ضمن المجموعة؛ فهل هذا يعني أن المملكة متحيزة لإيران.!).

ثانيًا: لأن السياسة السعودية لم تعد ترضى أو تقبل الضبابية التي لطالما عمدت واشنطن إجبار العالم بالتعامل وفقها، لتحقيق مصالحها بالدرجة الأولى، دون أخذ مصالح الدول الصديقة والحليفة لها في الاعتبار. ثالثًا: لخروج المملكة من إطار الدولة الريعية التي تعتمد على النفط، وتفعيل مقدراتها واستغلالها لتكون مصدرًا يكسر مفهوم الارتهان للنفط، كسلعة واحدة، يستفيد منها بدرجة كبيرة عميلٌ واحد.

أعتقد أن الإدارة الأمريكية الحالية هي الخاسر الأكبر من افتعال هذه الأزمة، التي تحولت إلى مصدر للتندر والتهكم الأمريكي والعالمي؛ باعتبارها اعتمدت على مزاجٍ سياسي أمريكي غير معتدل، ومضطرب إلى حدٍ كبير، ويجهل مفاهيم العلاقة مع العالم الآخر، بل ويتخذ الاندفاع منصةً لتنفيذ خططه وبرامجه السياسية، التي لطالما وضعته في خانة الحرج أمام الرأي العام أجمع، وهو ما انعكس على شعبية الرئيس الحالي بحسب استطلاعات الرأي العام الأمريكية، وتسبب ذلك بتقدم الجمهوريين على الديمقراطيين بأربع نقاط في انتخابات مجلس الشيوخ.

على كل حال، شخصيًا لن أستغرب إبداء إدارة جو بايدن الرغبة في الهدنة مع الجمهورية الإيرانية، طالما أنها تتعامل مع أصدقائها التاريخيين بهذا الجهل السياسي والتخبط وعدم الاتزان.

الخلاصة..

ما يفترض أن يفهمه بايدن وطاقم إدارته، أنه لا يعني للسعوديين فقدان الثقة بالحلفاء؛ بقدر ما يعنيهم الإيمان بأهمية بلادهم. وهي التي.. تستطيع إيقاف الجميع ليس على أطراف أصابع أقدامهم.. بل على أظافرهم.