فكرة الثبات مطمئِنة في حين أن التغيير قد يُصيبنا بالهلع؛ مع أن التغيير سُنة كونية نعيشها في كل تفاصيل حياتنا من أطوار خلق الإنسان إلى السراجين اللذين يتعاقبان علينا في آيتين هما سر معاشنا.

ومع ذلك هناك تغيير استسلمنا له وآخر نرفضه؛ بين تغيير تقبلناه بصدرٍ رحب وآخر على مضض، وبين تغيير لم نستوعبه إلا بوجود أشخاص كونوا لدينا فكرة الثبات في الوقت الذي قضّ التغيير فيه مضجعنا.

بين التوقعات والواقع تُرسم الخيبات؛ وبين الظن والحقيقة تتهاوى الأحلام وبين ما نريد وما يحدث جسور قد تبنى أو تهدم، كلها ترسم موقفا وتحدد الموقع من الإعراب، ومن ثم يكون دربنا الوحيد الذي رسمناه قد تحول فجأة إلى مفترق طرق وحدها المواقف من تُعيد ترتيبنا وترتيبهم، تُعلمنا عن طريق الامتحان ثم الدرس كما قال لي أحدهم.

يحدث أن نرفض التعلُم من الدرس الأول فتضطر الحياة لوضع درس آخر أكثر وطأةً لنستوعب الدرس جيدًا ونتخرج في تلك المرحلة للانتقال إلى أُخرى فما خُلقنا لنظل في نفس النقطة.

كحال الأشخاص في حياتنا أيضًا؛ لربما راقت لنا فكرة الاحتفاظ بهم للأبد بينما كان الغرض من وجودهم شيء آخر أعمق وأكثر نفعًا.

هذا وجوده درس وآخر رحيله هو الدرس وذاك هو الدرس بحد ذاته، قد يكون الغرض من مروره لا من البقاء، لربما كانت رسالته إحياء شيء داخلنا ظنناه ميتًا، أو كانت مهمته أشبه بدق أجراسنا التي مر عليها الزمن وتراكم فوقها الغبار، وارد أن يكونوا وسيلة للتنبيه كعيون القطط تلك التي تحذرنا من الانحراف عن المسار أو كلوحة إرشادية لما يستحق الحذر أو إشعار للانتباه، ومن الممكن أن يكون الغرض أجمل حين نُزهر ونزهُو ونرقص فرحًا لنعلم أننا ما زلنا قادرين وما زالت مجسات الأمل تعمل لدينا مثل الربيع خُلق فصلاً لا دهرًا.

تختلف الأسباب لكن الغاية واحدة هي أن نتعلم ونستمر في المضي قدمًا، نسلك مفترق الطرق ونجرب منها ما يُناسبنا حتى لو اضطررنا أن نسلك نفس الطريق مرتين أو أن نعود أدراجنا لنقطة التفرق ثم نختار مفترقًا آخر، المهم أن نكمل لا أن نتوقف.

فالعلاقات تحمل مفهومًا آخر لا ثبات فيها إلا لعلاقة الدم لثبات حرمة قطعها.

مع العمر نتعلم التخلي والبرود والتحكم، إضافة إلى الصبر لأنه ضريبة العمر الأساسية، لأننا كلما عشنا زدنا يقينًا أن الثبات فكرة آمنا بها حين لم نكن كذلك وكلما كنا ثابتين تحررنا منها لنصبح مُتزنين فالاتزان مرن بينما الثبات صلابة.

هذا معنى أن نودع الراحلين بامتنان فقد أدوا المهمة على أكمل وجه.