الصوت المرتفع دائماً ما يكون للقوي، والفرق كبير بين من يمارس حقه الطبيعي المستند إلى القوة، ومن ينتهج الإستقواء، فهذا في الغالب ما يكون ناتجا عن خوف الممارس نفسه من الطرف الثاني، لذا يلجأ لأساليب قمعية تعتمد على بث القلق في نفس المقابل. والجعجعة عبارة عن ظاهرة صوتية في الغالب، يلجأ لها من يعاني نقصاً أو ارتباكا في المواقف، فالفرق شاسع بينها وبين رفع الصوت من منطلق قوة.

ويمكن لنا الاستدلال على ذلك، بالتجاذبات التي عاشتها تل أبيب وبيروت، على خلفية أزمة حقل كاريش البحري للغاز، الواقع في البحر الأبيض المتوسط، ويعاني من تداخل حدودي بين لبنان وإسرائيل.

ورغم الشد والجذب والأخذ والرد بشأن هذا الملف الشائك، مارست الحكومة الإسرائيلية «من منطلق قوة» إخضاع الجميع للأمر الواقع، من خلال إعطاء شارة البدء في الإنتاج من الحقل، قبل توقيع اتفاقية ترسيم الحدود بيومين، بينما لم يجد حزب الله مخرجا من الحرج أمام الرأي العام المحلي، إلا التهديد الذي جاء على لسان حسن نصر الله ( زعيم الميليشيا الإرهابية)، وهذا ما وصفته في المقدمة بالجعجعة، التي تعتمد على رفع الصوت فقط لمواجهة الخارج، وتستند إلى ممارسة الاستقواء بالسلاح السائب في الداخل.

فذات ليلة خرج حسن نصر الله للحديث، وبنبرة المتحكم بتفاصيل الأمور في لبنان، معلناً عدم قبول استخراج إسرائيل للنفط والغاز من الحقل، قبل حصول لبنان على حقوقه، واعتبر ذلك «خطا أحمر». بل إنه بلغ مبلغاً أكثر من ذلك، حين قال «أعيننا كلها على كاريش، وصواريخنا كذلك».

بالتأكيد أن زعيم الميليشيا خرج لممارسة الصراخ المعتاد لحفظ ماء الوجه، على الأقل أمام البيئة الحاضنه له ولحزبه المتطرف، لكنه في المقابل لن يجرؤ على اتخاذ أي خطوة من شأنها إخراج تل أبيب عن طورها، وهذا لاعتبارات عدة، أكثرها أهمية أنه يعلم بأنها لن تحتمل أي شكل من حماقاته المعتادة، نتيجة صبرها على عرقلته لهذا الملف لسنوات، لا سيما بعد أن نظرت الولايات المتحدة الأمريكية للقضية، عقب إهمالها لأكثر من 12 عاما، نظير انشغالها فيما مضى بما هو أهم وأكبر من ذلك - والحديث عن تبدل الموقف الأمريكي بهذا الشأن سيأتي لاحقاً -.

المهم أنه ومهما حاول نصر الله إخفاء تذبذبه وخوفه الشخصي تجاه كل ما يرتبط بإسرائيل، عدا لبنان واللبنانيين، بما في ذلك رئيس الجمهورية، الذي أعلن موافقة الدولة على ترسيم الحدود، في موقفٍ أراد منه كسر الصورة النمطية المؤكدة لدى الجميع داخل وخارج لبنان، بأن ميليشيا حزب الله هي من يدير الدولة ويسيطر على مفاصلها، إلا أنه مكشوفٌ بحركاته وسكناته، ويحاول التغطية على ذلك بالتهديدات والأصوات العالية الرنانة.

أعود للموقف الأمريكي الذي منح تل أبيب ضوءا أخضر، ودفع بيروت دفعاً لمفاوضات غير مباشرة، استمرت عامين متتاليين، مارس فيها حزب الله كل أصناف العرقلة لكنه فشل، نتيجة الخوف من «الجان الإسرائيلي» هو والجمهورية الإيرانية التي ترعاه، وفي هذا الجانب عدد من القراءات والتحليلات، البعض منها خطأ لا يحتمل الصواب، والآخر صوابٌ يحتمل الخطأ.

فبعض الآراء ترى أن إنجاز هذا الملف بغطاء أمريكي، يرمي لعدة أهداف؛ الأول: تنفيذ خطة تجميلية من المفترض أن يشهدها لبنان، تقود حزب الله للانخراط في الإطار الوطني، شريطة تخليه عن السلاح الذي يملكه «وهذا صعب تحقيقه، كون السلاح الذي يملكه مقدسا، ينفذ أوامر شرعية في المفاهيم التي يسير وفقها الحزب».

الثاني: التسويق لاستغلال لبنان لثروته الاقتصادية، وبالتالي تنحيته عن صراعات المنطقة، التي يرمي بكل ثقله في تفاصيلها، دون إعارة أدنى إهتمام للدولة «وذلك أكبر من حزب الله باعتباره ورقة رخيصة ضمن أوراق ولاية الفقيه».

ثالثاً: تقديم واشنطن نفسها على أنها الراعي الكبير للدولة اللبنانية، لتحل بديلاً عن دول لطالما حُسبت أنها تقوم بالدور ذاته «ويحول دون ذلك العداء التاريخي لأمريكا، النابع من المنهجية الخمينية».

شخصياً بحكم متابعتي لهذا الملف، فبقدر ما أرى ان تلك التحليلات غير مقنعة، أرى الخطوة الأمريكية ذات مغازٍ غامضة وأهداف عدائية متوسطة وبعيدة المدى. معادية لمن؟ لروسيا الإتحادية.. كيف؟ من خلال إحلال إنتاج حقل كاريش الذي يقدر بـ«1.3 تريليون قدم مكعب»؛ بديلاً عن الغاز والنفط الروسي.

قد يقول قائل إن التفاوض بهذا الشأن بدأ قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. صحيح. وهذا ربطٌ غير موفق، كون الدولتان «أمريكا وروسيا» غريمين تقليديين منذ عقود، ومن هنا فلا علاقة للحرب الجارية بالخطوة الأمريكية، إن صحت الفرضيات.

إن الاتفاق اللبناني الإسرائيلي سار وفق ما هو مخطط له، في دوائر صنع القرار الغربية وتل أبيب، متخطيةً بذلك لبنان، الذي لا يملك من قراره أكثر من السمع والطاعة والتنفيذ، فقبول فتح الملف برمته جاء من طهران، مروراً بالضاحية الجنوبية، دون استشارة سيد القصر في بعبدا.

ما يهم أكثر من كل شيء أن معادلة «المقاومة»، التي لطالما تشدق بها نصر الله تبخرت واندثرت، والطريق لتحرير فلسطين، انقطعت، فما حدث اسمه اعتراف من الحزب بإسرائيل شاء من شاء، وأبى من أبى.

كل الشعارات ولت لغير رجعة.. بجرة قلم.