كنا ولا نزال نسمع بـ «إعادة قراءة التاريخ»، و «إعادة كتابة التاريخ»، وهما مصطلحان دارت حولهما بحوث ودراسات ضخمة، بيد أن التركيز في هذا المقال سوف يكون على «إعادة قراءة التاريخ»، لكون «إعادة كتابة التاريخ» موضوعا شائكا وعسير الهضم على مساحة المقال، وكذلك هو موضوع عام وكلي، ومن جزئياته «إعادة قراءة التاريخ»، ومصطلح «إعادة كتابة التاريخ» يمر بمراحل كبرى وأزمنة شتى، تصعب الإحاطة بها إلا بشروط كبرى، وفي نظري المتواضع أنه لا يمكن أن تعيد «كتابة التاريخ» إلا مراكز بحوث متخصصة جداً، تتصف بأن تكون محايدة وموضوعية، وتتصف بالإنصاف والعدل والمعرفة العميقة، لكيفية قراءة أحداث التاريخ، ومدى إقحام التأويلات التفسيرية لتلك الأحداث، وألَّا يتم إقحام الأيديولوجيا المذهبية في متن أو هوامش إعادة كتابة التاريخ.

و مصطلح «إعادة قراءة التاريخ» ولجته تيارات كثيرة، بمختلف مرجعياتها الفكرية، سواء كانت مرجعيات ذات منطلقات دينية، أم مرجعيات ذات منطلقات ورؤى علمانية، أم كانت ذات منطلقات ورؤى تنويرية تقدمية، أم كانت ذات منطلقات ورؤى وتطلعات فلسفية. كل هذه التيارات تُقدم تفسيراً وقراءةً لمصطلح «إعادة قراءة التاريخ» من خلال بيان معنى التاريخ وما يُقصد به، ثم تقدم المبررات والمسوغات لإعادة قراءة هذا التاريخ، الذي فسرته من خلال إسقاط رؤيتها ومبادئها، التي تؤمن بها وترى الحياة وصروفها من خلالها.

وهذه العملية الفكرية لا غبار عليها من حيث التقييم العقلي المحايد، بيد أنها عندما تتكئ على أيديولوجيات فكرية، لها اعتبارات ورؤى ذات تطلعات سياسية أو دينية لكيفية سيرورة التاريخ، فإن تلك القراءات سوف تتسم بعدم الحياد، بل سوف يتضح من خلال تفسيراتها، أن كثيراً من الأسس والأركان التي تعتمد عليها، إما أنها ليس لها أساس متين، يجعلها تقف عند النقد العلمي الموضوعي، وإما أنها قراءات فوضوية لا تمت للعلمية بأية صلة، وإما قراءات مجتزأة تتصف ببتر النصوص التاريخية وعسفها، كي تتوافق ورؤيتها الأيديولوجية، وهذا واضح وجلي وبين لمن اطلع على تفسيرات كثير من التيارات الشيوعية والقومية، وكل التيارات المتطرفة من اليمين واليسار.

ولاشك أن إعادة قراءة التاريخ، لا تخلو من أُناس بذلوا ما في وسعهم، كي يقتربوا من الإنصاف والعدل، لكن كانت هناك أدوات بحثية ووسائل للسبر والاستقراء، لم تكن موجودة آنذاك في عصورهم، ومع ذلك فإن صفات العدل والأنصاف المنهجية، كانت تتضح من خلال قراءتهم لبعض الحوادث في عصور ماضية، وقراءة التاريخ تعتمد اعتمادا كلياً على أصل نقل الرواية، وما يدور حولها من مسميات القصص والشواهد والمشافهات الجماعية والشخصية، فالرواية هي طريق الولوج إلى التاريخ، لذا اهتم كثير من العلماء بتسجيل حوادث التاريخ ورصدها ونقلها، والتاريخ عموماً هو «السعي لإدراك الماضي البشري وإحيائه»، وهو «دراسة صيرورة الأرض والسماء والأجناس البشرية، بالإضافة إلى الحضارة»، وفي الحقيقة من خلال استقراء كتب التاريخ المؤلفة في منهجية كتابة التاريخ، فإن التاريخ يشمل التاريخ المعروف كخبر عن الماضي، سواءً بالتفصيل أو بالاختصار للحوادث، ويشمل كذلك التاريخ ذاته أي الوقائع كما حدثت فعلاً، بيد أن كثيراً من الدلائل يشير إلى تعذر معرفة أحوال الماضي، كلما ابتعد عن زمن التأريخ والمؤرخ الراصد له، فمعظم أخبار الماضي ضائعة أو غير منقولة بتمامها أو بالدقة اللازمة، لأنها مستنتجة بقدر كبير من التخمين وقليل من الثقة، وكذلك يشمل التاريخ الأعمال المكتوبة المتعلقة بتدوينه، وهذا يتمثل في تاريخ الطبري ونقصد به كتاب «تاريخ الأمم والملوك» الذي وضعه محمد بن جرير الطبري، و تاريخ المسعودي ويُقصد به كتاب «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، لأبي الحسين علي المسعودي، أو تاريخ الجبرتي «تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار».

و أجاد وأفاد العلامة ابن خلدون عندما حدد قواعد البحث في التاريخ، حينما قال «إن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتُشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السُّوقة والأَغْفَال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال «أي الرؤساء» ويتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال».

وأظن أن كثيراً من الإشكاليات العميقة التي نراها ظاهرةً على السطح في مسارات السياسة والفكر والاقتصاد وعلم العقائد، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكيفية قراءة التاريخ أولاً، ثم ترتد تلك القراءة إما بفتح موضوع التأويلات والتفسيرات، التي يضمنها اليقين العقلي الذي منحنا إياه الخالق المبدع، في إعطاء قراءات متعددة لتلك الأحداث، وقبول ما يمكن للمنطق والأسس الحقيقية لضبط الروايات، التي حددها كثير من علماء الرواية، من حيث صحة النقل وضبط الرواة بشرط عدم التعارض والتناقض، غير القابل للجمع بين العقل والمنطق وصحة الرواية، وفي هذه الحالة من التناقض فإننا نلجأ إلى القواعد العقلية المنطقية الصحيحة، التي لا تجعل تلك الروايات مناقضة ومخالفة للمألوف العقلي، المسبب للحرج والضيق والضنك، الذي جاءت أصل الشرائع برفعه ونفيه، فالحرج في الشريعة منتفٍ وأمره للزوال، كما أن الضرر منتفٍ ومرفوع عن بني الإنسانية.

فهذه قاعدة كلية رصينة يمكن التأسيس عليها، عند إرادة إعادة قراءة التاريخ والأحداث، وفهم التأويلات الماضية مع جريان القواعد الكلية، والمقاصد الحقيقية لمعنى خلق الإنسانية.