اخترت عنوان "الحب أعمى" لسبب أدخر معناه في ثنايا المقال، وربما على الأرجح في أواخره، وأتمنى عدم القفز على الأسطر والذهاب فوراً لقفلة المقال، للتعرف على السبب، فإذا فعلتم ستضيع عليكم حلاوة السرد المتتالي، وفي نفس الوقت لن تجدوا للعنوان ذاك الرونق والإقناع.

طبعا أعرف أننا كلنا كبشر حاسة الفضول لدينا مجنحة وتطغى على مقولة كل مطرود ملحوق، أو كل آت قريب أو بالمقولة الشعبية «أموت وأعرف ليش».

دعونا سويا نمضي مع المثل الشعبي أكل اللوز حبة حبة، على فكرة هناك من لا يلاحظ أن تشديد الحرف ليس كلزومه، فحرف اللام هنا لازم، فيكتبون أكل الوز حبة حبة، عاد شوف كم وزة الواحد راح يمرمش وهو يضرب أبو أربعة أسود.

الحب أعمى هي كلمة تعني أن من أحب لا يرى في المحبوب إلا الجمال، وأول ما تحصل مشكلة ويتفرق الخلان تجد عبارة الحب أعمى سواء من أحدهما كتبرير، أو من الحاسدين شماتة.

أول من استخدم هذه العبارة هو جيفري تشوسر في فيلم Merchant’s Tale "حكاية التاجر" ولكن هذه المقولة اكتسبت شهرة كبيرة بعد أن استعملها شكسبير في مسرحيته تاجر البندقية Merchant’s venice على لسان جيسيكا إحدى شخصيات المسرحية، ولكن ميخائيل نعيمة يقول: «يقولون إن الحب أعمى وذاك خطأ، بل الحب مبصر ولكنه يرى بعين الجمال، فيرى كل شيء جميلاً».

ويقول الأديب الفرنسي سانت أوكزبري: «وحده القلب يبصر جيداً فالأمور المهمة لا تراها العين»، ومن جن في الحب لا يرى في الحبيب أي عيب فالجنون فنون، ولذا أطلق لقب مجنون ليلى على قيس بن الملوح الهوزاني الذي ولد في نجد عام 24 للهجرة وتوفي عام 68، فقد عاش 44 سنة فقط، وهنا ألاحظ تكرار فناء العشاق في عمر قصير «لعل العشاق يتعظون»، وأتذكر هنا قول إخواننا اللبنانيين «الله يأصف عمر الحب شو بيزل».

قيس لم يكن مجنونا لكن اكتسب ذلك اللقب «الفخم» بسبب غرامه بابنة عمه ليلى العامرية التي رفض أهلها تزويجها منه، فقد درجت عادات العرب عدم تزويج من يتطرق إلى ابنتهم في الشعر والحكايات، وقد كانت قصة حبهما العذري من أميز وأعمق القصص على مر الأزمان، فقد كانت مضرب المثل في الحب والوفاء.

لقد كان الاثنان يرعيان الماشية سوياً فنشأ بينهما ذلك الحب الكبير، ولكن رفض عمه تزويجها له فهام على وجهه في الصحراء وبين المدن، فتارة يرى في الشام وتارة في نجد وأخرى في الحجاز، ويردد قصائد بلغت أكثر من 350 قصيدة معظمها عن ليلى وهيامه بها، ويقول في إحداها:

لوكانَ لي قلبان لعشت بواحدٍ

وأفردتُ قلباً في هواكَ يُعذَّبُ

لكنَّ لي قلباً تّمَلكَهُ الهَوى

لا العَيشُ يحلُو لَهُ ولا الموتُ يَقْرَبُ

كَعُصفُورةٍ في كفِّ طفلٍ يُهِينُها

تُعَانِي عَذابَ المَوتِ والطِفلُ يلعبُ

فلا الطفل ذو عقلٍ يرِقُّ لِحالِها

ولا الطّيرُ مَطلُوقُ الجنَاحَينِ فيذهبُ.

كما يقول في أخرى:

وَقالوا لَو تَشاءُ سَلَوتَ عَنها

فَقُلتَ لَهُم فَإِنّي لا أَشاءُ

وَكَيفَ وَحُبُّها عَلِقٌ بِقَلبي

كَما عَلِقَت بِأَرشِيَةٍ دِلاءُ

لَها حُبٌّ تَنَشَّأَ في فُؤادي

فَلَيسَ لَهُ وَإِن زُجِرَ اِنتِهاءُ

وَعاذِلَةٍ تُقَطِّعُني مَلاماً

وَفي زَجرِ العَواذِلِ لي بَلاءُ

لقد كانت قصة الحب العذري تلك في بلدة النجوع التي تسمى الأفلاج، التي ولدت فيها ليلي العامرية الشاعرة العربية المشهورة، وقد قام عمه بتزويجها من شخص آخر لقتل ذاك الحب، ولكن هيهات فالعاشقون لا يفلهم إلا الموت عمن أحبوا، فيقول قيس:

لو سيلَ أَهلُ الهَوى مِن بَعدِ مَوتِهِمُ

هَل فُرِّجَت عَنكُمُ مُذ مِتُّمُ الكُرَبُ

لَقالَ صادِقُهُم أَن قَد بَلى جَسَدي

لَكِنَّ نارَ الهَوى في القَلبِ تَلتَهِبُ

جَفَّت مَدامِعُ عَينِ الجِسمِ حينَ بَكى

وَإِنَّ بِالدَمعِ عَينَ الروحِ تَنسَكِبُ

وكما كان قيس متيما بحب ليلى فهي كانت تبادله نفس الهوى، ومن شغفها به لم تستطع إلا إبداء الصد والإعراض عن زوجها الذي دفعه الفضول وربما النيل من قيس وقد علم أنه يجول في أطراف الحي إلا أن يذهب إليه، فسلم وأنشد يقول:

ومن تحب جنونك في فتاة

مزوجة سواك ولن تراها

أيا مجنون كم تهوى بليلى

كأن الله لم يخلق سواها

فتأثر قيس وأنشده، وقال:

بربك هل ضممت إليك ليلى

قبل الصبح أو قبلت فاها

وهل رفت عليك قرون ليلى

رفيف الأقحوان في نداها

فقال زوجها اللهم إذ حلفتني فنعم، فلم يحر قيس ردا، بل ذهب على وجهه هائما كعادته، وهو يقول:

تَمُرُّ الصَبا صَفحاً بِساكِنِ ذي الغَضى

وَيَصدَعُ قَلبي أَن يَهُبَّ هُبوبُها

إِذا هَبَّتِ الريحُ الشَمالُ فَإِنَّما

جَوايَ بِما تَهدي إِلَيَّ جُنوبُها

قَريبَةُ عَهدٍ بِالحَبيبِ وَإِنَّما

هَوى كُلَّ نَفسٍ حَيثُ كانَ حَبيبُها

وَحَسبُ اللَيالي أَن طَرَحنَكِ مَطرَحاً

بِدارِ قِلىً تُمسي وَأَنتَ غَريبُها

حَلالٌ لِلَيلى شَتمُنا وَاِنتِقاصُنا

هَنيئاً وَمَغفورٌ لِلَيلى ذُنوبُها

وتسمع ليلي بهذا الشعر، فتقول:

أَلا لَيتَ شِعري وَالخُطوبُ كَثيرَةٌ

مَتى رَحلُ قَيسٍ مُستَقِلٌّ فَراجِعُ

بِنَفسِيَ مَن لا يَستَقِلُّ بِنَفسِهِ

وَمَن هُوَ إِن لَم يَحفَظِ اللَهُ ضائِعُ

وَأَسلَمَني الباكونَ إِلّا حَمامَةٌ

مُطَوَّقَةٌ قَد صانَعَت ما أُصانِعُ

إِذا نَحنُ أَنفَدنا الدُموعَ عَشيَّةً

فَمَوعِدُنا قَرنٌ مِنَ الشَمسِ طالِعُ

ويصله من هنا وهناك اللوم والشماتة فيقول:

عَفا اللَهُ عَن لَيلى وَإِن سَفَكَت دَمي

فَإِنّي وَإِن لَم تَحزِني غَيرُ عاتِبِ

عَلَيها وَلا مُبدٍ لِلَيلى شِكايَةً

وَقَد يَشتَكي المُشكى إِلى كُلّ صاحِبِ

يَقولونَ تُب عَن ذِكرِ لَيلى وَحُبِّها

وَما خَلِدي عَن حُبِّ لَيلى بِتائِبِ

ولعلنا نصل إلى العنوان الحب أعمى، فإنه مع ما مضى من عظم العشق والصبابة وجنون الغرام والهيام، ففي ظني أن كثيرا ممن يقرأ يعتقد لا جرم أن ليلى ليس يضاهيها في الحسن والجمال أي غانية في زمانها، لكن في الواقع لم تكن هي كذلك، فقد كانت توصف بالحبشية لسمارها.

ويروى أن والد قيس عندما رأى ابنه في ذلك الحال طلبه، وقال له ما أرها ممن يوصف بالجمال، وبلغني أنها قصيرة جاحظة العينين وفوهاء وفي العرب خيرا منها، فرد قيس:

يَقولُ لِيَ الواشونَ لَيلى قَصيرَةٌ

فَلَيتَ ذِراعاً عَرضُ لَيلى وَطولُها

وَإِنَّ بِعَينَيها لَعَمرُكَ شُهلَةً

فَقُلتُ كِرامُ الطَيرِ شُهلٌ عُيونُها

وَجاحِظَةٌ فَوهاءُ لا بَأسَ إِنَّها

مُنى كَبِدي بَل كُلُّ نَفسي وَسولُها

فَدَقَّ صِلابَ الصَخرِ رَأسَكَ سَرمَداً

فَإِنّي إِلى حينَ المَماتِ خَليلُها

هل صح لسان من قال الحب أعمى!؟.. قد يكون.