مشاهد صادمة للكثيرين وهم يرون مواطنين إيرانيين يسارعون إلى نزعة احتلت مواقع وسائل التواصل الاجتماعي بإسقاط عمائم رجال الدين في إيران، هو أمر رمزي، فتلك العمائم التي تصدرت المشهد من 1979 مع الخميني، ومن حوله من المقربين، حين كانت الشعارات المعلنة مدمجة بين كلام اليساريين الذي شاع في تلك الأوقات، وبين اصطلاحات دينية وظفها الخميني وأتباعه ليتحدثوا عن المستضعفين والمستكبرين، عن الشيطان الأكبر، عن البعث الإسلامي الذي زعموا أنهم قادته.

رفع وصول الخميني الحكم فئات كانت مستبعدة من قبل، وتحول رجال الدين إلى لعب دور رجال الدولة، ذلك الدور الذي لم يجيدوه بقدر ما تحولوا من الوعظ إلى التحريض على الثورة وتصديرها. ومع حرب العراق كان خط السياسة الإيرانية واضحًا بالسعي إلى نشر كل الأزمات الداخلية إلى الخارج، ومحاولة غسل أدمغة الشارع الإيراني، بوجود مؤامرة عليهم، وأنهم يمثلون المقدّس، وما حولهم مدنس، لم يكن سرًا تحريض الخميني على دول الخليج، واستعان أحيانًا بلغة قومية متعصبة بوصف الفرس بالحضارة، في مقابل العرب الذين لمزهم بأنهم سكان الصحراء.

ومع الخلط بين القومي والديني، ومحاولة تصدير الأزمة، كانت العمائم تلعب دور إضفاء هالة الشرعية على نظام الحكم في إيران، ولمس المواطن الإيراني كل حين فشلًا في مختلف الميادين، ثم أرادوا منه مواجهة العالم الذي أضحت إيران في موقع الغرابة فيه، كانت الفكرة التي تأسس عليها مشروعية النظام هو الثورة، لكن هذه الفكرة أعطت دومًا المشروعية لتكرارها، فإن كانوا يرون شرعيتهم بثورة، فهذا يعني مشروعية الثورة عليهم، فكيف وهم الذين سعوا لتصديرها كل حين؟

تعاني الأفكار الثورية كل حين من خطورة قلب منهجها عليها، ففي التاريخ حفظ لنا أن تجارب الخوارج كانت مليئة بالانقسامات، والتكفير المتبادل، فتأتي فرقة تكفر أخرى وتنشق عليها، وتتشظى المسألة إلى ما يصعب حصره، وحين يجري تغليف كل المغامرات السياسية باسم الدين، واحترام العمائم، تضحي المغامرة ليست حكرًا على الجانب السياسي فحسب، بل تشمل وقتها العمائم نفسها، الغلاف والمضمون يضحيان على المحك، بدفع ضريبة النتائج.

لمس المواطن الإيراني ألا أحد يهتم به في دولته، بل يجري الزج به في معارك خارج بلده، مع تحطيم أسئلة التنمية والاقتصاد بالحديث عن المؤامرة، رأى أنه معزول عن الاندماج في المحيط الإسلامي بناء على السياسة المتعنتة المتبعة في بلاده، وداخليًا ما أن يرفع رأسه قليلًا حتى يصطدم بطرف عصا الباسيج المنهمكة بالنزول على رأس المواطنين، حينها وجد رمزية رفضه بإسقاط العمائم التي لم تحترمه، فلم يجد في نفسه باعثًا على احترامها.

ومع انطلاق كأس العالم، تناقل العالم مشاهد رفض المنتخب الإيراني ترديد النشيد الوطني، وهو ما يظهر إلى أي درجة بلغ الرفض حين لا يعتبر مواطنون يمثلون بلادهم في حدث رياضي كبير مثل كأس العالم، المشاركة بترديد النشيد الوطني، كل هذا يؤكد على أمر أساسي، أن السياسة الإيرانية لم تعد نشازًا عن العالم فحسب، بل أضحت غريبة في أعين شعبها كذلك، أولئك الذين رأوها حملًا جاثمًا فوق صدورهم.

وفي غمرة التسارع الذي يصعب التوقع بمنتهاه للرفض الشعبي، يحاول النظام الإيراني الإبقاء على صورته كأن يسعى إلى التجمد عند لحظة واحدة، حين اعتلى الخميني ومن التف حوله السلطة، بطريقة ما كأنهم يثبّتون الزمن متى كرروا كلماتهم، دون أي بوادر لإدراك الفشل المزمن الذي ينتشر في مختلف سياستهم الداخلية والخارجية، إنهم يمتلكون قطاعًا جامدًا لا يرصد التغيرات، بل في كثير من الأحيان تظهر الارتجالية بصورتها الفجّة بتصريحين متناقضين في الوقت نفسه.

لا شك أن الإرباك الذي تعاني منه العمامة في السلطة يتلخص في عدم قدرتهم على السيطرة على الجيل الجديد من الإيرانيين، أولئك الذين يتواصلون مع باقي العالم، ويسمعون من الأخبار والأنباء غير ما يقوله الرسميون في بلادهم، عن الجيل الذي اختار أن يعبر عن رفض شامل ليس للسياسيين فحسب، بل كل ما يتعلق بهم، وما يرمز إليهم، دخل الرفض للنشاز السياسي الذي يمارسه خلفاء الخميني، مربّعًا جديدًا، وفي غمرة سرعة التواصل، وتنوع الأفكار، فإن الجمود الإيراني لا يمكنه أن يثبّت اللحظة، إنه في عناد متواصل، في وجه سيل جارف يتجمع في مواجهته.