سيرة الحروب كما يبدو تستعد لكتابتها. السلاح جاهز، والدخان يحوم في السماء. لا حلول حسب ما يتضح. فالبعض منها قد يتحول إلى أزمات. والكثير قد استفاد من دروس الماضي؛ والبعض لا لم يستفد. والوقائع باتت مجتمعة في ملفات أصبحت كبرى. ولا شيء يغير المعادلات أكثر من ميزان التوازنات، فتلك– أي التوزنات– فتاة القوة المدللة.

والقوة في مواجهة دولة مارقة في المنطقة، ربما تكون هي الورقة الأخيرة لثنيها عن طرق الدمار.

في الجمهورية الإيرانية، كل شيء يشي بالخروج عن الأعراف الإنسانية، والمواثيق الدبلوماسية والدولية. فتلك الدولة التي تحولت عاصمتها من مصدر للفكر الشيعي إلى صداع أصاب الأرض ومن عليها؛ لم تعد تخفي منهجيتها القائمة على الكراهية للجميع، وذلك تحت ستار المظلومية والادعاء الذي تتغنى به منذ إسقاط نظام الشاه، حتى هذا اليوم، بحسب ما يتجسد دوماً على لسان رئيس الجمهورية، الذي اعتاد مؤخراً رمي مسؤولية الانتفاضة التي يقوم بها الشعب على من يسميهم «الأعداء».

والتعليمات التي يتمسك بها علي خامنئي المرشد الأعلى للجمهورية، ورثها عن سابقه، بعد أن نفذ الخميني انقلاباً على الملكية في إيران، وفرض شكلاً من أشكال التعاطي والمعاملة مع مثل هذا النظام، الذي فرط على مر السنين الماضية بالعشرات لا، بل بالمئات، من فرص التقارب، ومحاولات دفعه للانخراط في المجتمع الدولي كأي نظام له ما له، وعليه ما عليه، إلا أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل.

والمشكلة أنه وعلى رغم الحروب والخصومات التي دخلتها الجمهورية، لم تصل حتى اليوم إلى معادلة تماسك الشارع والنظام، إنما العكس، فقد انزوى الشعب بعيداً عن دولة يعرف أنها مسلحة حتى أسنانها، وبات ينظر للخارج من ثقوب العالم المتاحة، وما الانتفاضة الأخيرة التي نفذها الإيرانيون ضد نظامهم، إلا دليل ضمن حزمة أدلة، تُعبر عن يأس الإنسان الإيراني من التغريد خارج سرب الاعتدال.

والتباعد بين الشعب والحكومة الذي أقصده، هو ما قاد بعض المتظاهرين قبل أسابيع لمحاولة إحراق منزل مؤسس نظام الجمهورية الإيرانية روح الله الخميني الذي يعتبر أكبر رموز الدولة سياسياً وعقائدياً. وفي هذا الحدث رسالتان؛ الأولى: كسر حاجز الخوف الذي تخطاه الشعب من حكومة قمعية. والثانية: موجهة للنظام والعالم الآخر، والقصد منها أن الضرورة باتت ملحة لأن تحل الثورة السلمية التي يقودها الشعب، بمحل الثورة الدينية، التي أنتجت دولة فاشية واستبدادية، لا سيما بعد أن أمضت أكثر من أربعة عقود تعمل على قمع الإنسان وفك إرتباطة بالخارج.

ومهما اجتهدت الإدارة الإيرنية في محاولة تصوير أنها لا تكترث لما يحدث لها بالداخل، فإنها تعاني من حالة إرباك، تشير لها محاولات إحداث شوشرة خارجية، على سبيل مهاجمة ما تقول إنها مقرات لمعارضين إيرانيين على الأراضي الكردستانية، عبر هجمات صاروخية نفذها الحرس الثوري، وسبق ذلك استهداف حاملة نفط قبالة ساحل عمان قبل عدة أسابيع من قبل طائرات إيرانية مسيرة، تلى ذلك بيومين، بحسب ما جاء على لسان هيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية، أن طائرة مسيرة حاصرت سفنية في سواحل عمان؛ بينما تتزامن تلك الأحداث المتتالية مع تأكيدات أطلقتها المخابرات الكندية حول امتلاكها تقارير قالت إنها موثوقة حول تهديدات إيرانية بقتل أفراد داخل كندا.

أعتقد أنه بالضرورة أن يعي الجميع أن تلك الأحداث المفتعلة من قبل السلطة في طهران، ترمي إلى صرف النظر عن الداخل الإيراني الذي قال كلمته في وجه الأيديولوجية الخمينية، بعد أن أثبتت عجزها عن تحويل الدولة إلى مكان يعيش تحت سقفه الجميع، دون تفرقة وتعنصر مذهبي، إضافة إلى عدم قدرتها على التكيف مع الخارج.

وبالتزامن مع ذلك يجب أن يتحمل الغرب ويضطلعوا بمسؤوليتهم نظير إيقاظ هذا الغول النائم، بل ومنحه مزيدا من الفرص التي من شأنها إعادته للمشهد من جديد، بقوة أكثر، وفي صور مختلفة. وأقصد هنا محاولة مهادنة نظام الولي الفقيه في الملف النووي الإيراني، الذي يضع الجمهورية الإيرانية الكاسب الأوحد، في مقابل أن الجميع خسران.

أعتقد أن الوقت قد حان لدفع فاتورة توغل النظام الإيراني في قضايا الأمة العربية ليس لكونها وسيطاً يبحث عن السلام، بل كجزار يحب ويعشق أن يبقى في صورة عيني من يقتله، ولسوريا الجريحة النصيب الأكبر من إسهامات طهران في صناعة القتل، سبقتها العراق، ولبنان، وتلتها اليمن.

يحسب من يملكون صلاحية التوقيع على أوامر القتل في طهران، أنهم فوق كل شيء. فوق الإنسانية والمحاسبة، وأقوى من لعنات الثكالى ودموع الأيتام، وأن ويلاتهم وصيحاتهم لا محل لها في صفحات التاريخ الذي يصنعه البشر، وهم في نهاية الأمر واهمون، غارقون في وحل الدماء، وأزكمت أنوفهم رائحة الجثث والبارود. والحقيقة تؤكد أنه سيأتي يومهم الذي كانوا يوعدون. وليتهم يعتبرون من المقبور قاسم سليماني الذي كان له اليد الطولى في قمع الشعوب العربية، كيف كانت نهايته.

أخيراً أستطيع القول إن التمرد الذي تنفذه الجمهورية الإسلامية، كان ذا محدودية لا تتجاوز المنطقة، وسبق أن حذرنا من اتساع ذلك ليصل إلى أبعد مدى، وها هو تحقق بالفعل، بالنظر إلى التصريحات الكندية المذكورة آنفاً، وهذا إذ يؤكد أن التودد الذي مارسته الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية مع هذا النظام المتطرف، فتح مزيدا من الأبواب، التي سيطل يوماً هذا الوحش من نوافذها، لنفث سمومه القاتلة على عمقهم الجغرافي.

قبل أربعين عاماً وأكثر ولدت دولة من رحم انقلاب في وضح النهار وتحولت مع الوقت،

إلى فرقة إعدام يعرفها الكثير ويحبها البعض ويكرهها الجميع.

وحتماً.. نظير لعبها بالنار لا بد لها أن تحترق. نحن منتظرون.