يقول الباحث المختص بحقوق الشريعة وأصول الفقه في جامعة أوكسفورد، شيفلي آدمي: (إن الفهم التقليدي للعقوبات في الإسلام، لا يتسم بتلك العقوبات القاسية التي يمارسها «داعش» أو المملكة العربية السعودية أو إيران، إن العقوبات الجسدية، كانت في الأزمنة السابقة هي العقوبات السائدة، لكن الإسلام جاء ليقننها ويضع لها شروطًا، بحيث يجعلها تكون صعبة التنفيذ). (موقع قنطرة، 2017)، وبالرغم من قدم المقال، فإنه -لشديد الأسف- ما زال القول بتطرف المملكة العربية السعودية، قولًا ومفهومًا سائدًا في بعض الأوساط، وهذا ناجم عن أكبر أزمة تُعاني منها الحالة الثقافيَّة السعودية، وهي أزمة التسويق على المستوى العالمي، الذي لن ينطلق ما دامت السعودية تصنف في مصاف الدول التي تتبنى المؤسسة الدينية فيها، موقفًا متشددًا في الأحكام والفتاوى.

وهذا يدعوني إلى طرح سؤال مهم، وهو: هل الدولة السعودية متطرفة دينيًا؟ كما يشير هذا الباحث، وعلى الرغم من وضوح جواب هذا السؤال، فإنني سوف أؤجل الإجابة عليه إلى مقال قادم، وأتناول في بقية المقال، حديثًا سأعتبره مقدمة للإجابة على السؤال آنف الذكر.

فأقول، يمكن إرجاع سبب ما أصاب العرب من تخلّف في العقود الخمسة المنصرمة، إلى الاستبداد الناجم عن محاولة فرض وصاية التدين «القائم على أساس من الفهم البشري للنص» على السياسة، فالسياسة لا تدخل في شيء إلا نظمته ورتبته، بعكس التدين «المؤسس على رؤية بشرية للنص»، والذي يمتلك ميزة المرونة المطلقة في النظرية والمفهوم والتطبيق، وهذه الميزة استغلها من يريد أن يثبت للناس أنه أكثر تشددًا، وبالتالي أكثر تدينًا، ليصبح أولى من غيره بالاتباع، فأضحى التدين والتمذهب والطائفية لا تدخل في شيء إلا شانته وأزَّمتَّه، وجعلته ضيقًا حرجًا، الأمر الذي يجعل التدين باختلافاته وتقاطعاته المتعددة، لا يوفر رابطة اجتماعية متينة مهما بذلنا من جهد في نشر التسامح، وقبول الآخر، إذ إنه وبسبب التدين ستبقى نظرة المواطن لأخيه المواطن المختلف مذهبيًا، أنه مجرد آخر، يمارس معه فضيلة القبول، وهذا أمر خطير، فهذه الرابطة تتقوض مع أول خطر يطرق بابها، بعكس الرابطة الوطنية المتينة، والتي يكون فيها الولاء فقط للقيادة والوطن، والجميع تحت مظلتها سواسية، فالرابطة الوطنية، تجمع الجميع في لحمة واحدة، بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية أو أصولهم العرقية، وتكفل لهم المساواة التامة بدون أي تمييز، ومن هنا تبرز أهميتها في تطوّر ونمو المجتمع، حينما تشيع في العلاقات الاجتماعية؛ لتكون أساس المساواة الوطنية وليس التفرقة الملية، أو الطائفية.

وحتى يتضح المقال، يجب أن نميز بين التدين الذي يجب أن يكون علاقة بين العبد وربه، قائمة على اجتهاد شرعي، أو تقليد فقهي، كنظرية بشرية مستمدة من فهم الشريعة، وبين الوطنية التي هي علاقة بين الفرد ومجتمعه وأبناء وطنه، وبينه وبين دولته، وهو ما يضمن لنا النجاح في تقديم نموذج تديني متسامح يحمل روح الإسلام وقيمه العليا، وكذلك يضمن لنا النجاح في تقديم نموذج مجتمعي راقٍ ومتقدم.

وحينما نفرق بين سلطة التدين، ونضعها في سياقها الفردي، وننزعها من السياق الجمعي، ونقوم بحماية السياسة من تسلط هذا التدين، فإننا نضمن وجود حالة من التمدن والتحضر غير مسبوقة في التاريخ الإسلامي كله، لأننا ببساطة توقفنا عن محاولة المزج بين متناقضين، يرتفع أحدهم وينتفي في حال وجود الآخر، فالسلطة الدينية، تتعلق بأمور ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والأحوال، بخلاف السياسة المتعلقة بأمور غير ثابتة وقابلة للتغير بحسب المكان والزمان والأحوال، ولذلك كان المزج بين هاتين السلطتين المتضادتين في متعلقاتهما ومآلاتهما وموضوعهما، من شأنه أن يوقع تخلفًا وتأخرًا بل واستحالة في تحقيق التمدن والتحضر.

والتدين القائم على فهم بشري للنص، هو عنصر تفرقة، لا بحد ذاته فحسب، بل لأن رؤساء هذه التدينات وزعماءها يزرعون الشقاق بين الناس، بنظرية الولاء والبراء وغيرها، مما يبقي المجتمعات ضعيفة، وهشّة، فالأمم تقوى بمقدار ما يضعف هذا التدين الجمعي، وما يضعفنا ليس الإسلام، بل إن ما يضعفنا هي سلطة المشايخ، كما أن الدول والمجتمعات التي تسيطر عليها السلطة الدينية والملية، تكون ضعيفة وقابلة للكسر، لضعف السلطة الدينية بطبيعتها، بحكم أنها ترسخ ما يفرّق بين الناس، كما أن السلطة الدينية تُشرع سبيل العمل للآخرة، ويكون تماسها مع الدنيوي خاضع لنظرية التقليل والتزهيد والانصراف عن الدنيا في غالبه، لذلك كان من شأن سلطتها أن تتعارض وغاية الدولة أو السياسة التي تشرع للدنيا وللعيش في عالم من لا يتقدم فيه يتقادم وبالتالي يتلاشى، والأهم من هذا كله أن الخلطة السيادينية تؤدي إلى النزاعات والحروب، وتنزع للصراع، فالمصالح الدينية مختلفة ومتعارضة، ولا بقاء لها إلا بصراع يغذيها.

وهنا قد يطرح أحدهم على اتهامًا، أنني أحاول أن أسوق للعلمانية بطريقة غير مباشرة، وإجابة عن ذلك، أقول: إن العلمانية حل حاول الإسلاميون تشويهه تمهيدًا لإفساح المجال أمام نظرية الحاكمية، التي هي في حقيقتها حكم الله بنفسه -تعالى الله- لحياة البشر، وبحكم أن هذا متعذر، فيتم التحول إلى حكم الديني لحياة البشر.

والعلمانية، تـرمـي إلى عـدم هيمنة المؤسسة الدينية على الدولة، بـاعتـبـار أنّ الدين مجموعــة من العقائد والتشريعات المرتبطة إما بالفرد، أو بما هــو أخروي، بينما الدولة مرتبطة بما هو إداريّ وإجرائيّ في شؤون السياسة والاقتصاد والاجتماع والعمران.

والعلمانية لا تلغي الدين، ولا تريد وتنتوي فصله عن الحياة، ولكنها ترى أنّ المعرفة المطلوبة لتنظيم شؤون الحياة مستقلّة عن المعرفة الدينية، ومن هنا رأت ضرورة حياد الدولة إزاء الأديان، الحياد وليس التهميش، ولو فهمنا العلمانيّة في سياق إدارة الحياة بالقوانين المدنية، وتنزيه الدين عن الخوض في حقول معقدة لا يملك تصورات أو إجابات نهائية عنها، فلن يكون القول بالعلمانية تهمة.

أخيرًا، المجتمع الصالح، هو المجتمع الذي يتجاوز الفروق الطائفية والملية، وهذه حقيقة، مثلما أن غالب ما كتب في الأحكام السلطانية، هو ضد الدولة الوطنية، ومنه نقول: إن من الضروري هيمنة السياسة على التدين، لضمان مجتمع مسلم مسالم، ينعم بالأمن والأمان.