ما زال هناك من يساوره القلق من رؤية «2030» ولا علاقة له بالصحوة سوى أنه لبس ثوبها مع اللابسين، ثم أعجبه الثوب بحكم الإلف والعادة، إنه مجرد رجل على مشارف الـ60 من العمر أو تجاوزها (عاش امتياز طفرتين نفطيتين تقريباً)، وبدأت بعض التوجهات والمواضعات الاجتماعية تتغير عليه، وفي هذا المقال سأحاول مخاطبة هذه الفئة بمثال على شكل حكاية خيالية، فهذه الشريحة مهما كانت أقلية بالنسبة لعدد السكان (5%) فقط، فإن علاقتها بأبنائها واستيعابها التغيرات سيحفظ لها (ماء وجهها) من وصمة (الجمود الفكري والتخلف).

المثال هو حكاية من الخيال السوريالي لامرأة تجاوزت الـ40 عندها بضعة أبناء وبنات، وعند إنجاب آخر مولود لها، اكتشفت أن في أرض زوجها بئر ماء للشرب، وهي البئر اليتيمة في منطقتهم الجغرافية، والجميع يشتري الماء منها بسعر مرتفع جداً، على إثر ذلك تجمع لديها مبلغ كبير جعلها تفتتح مركزا تجاريا كبيرا، الهدف منه ليس (التجارة والاستثمار)، بقدر ما هو مستودع لحاجات أولادها المختلفة، وكان القائم على المركز التجاري عامل آسيوي، وقد انشغل الأبناء بوصايا أمهم (ربة المنزل) التي ترى أن الله كفاهم بهذه البئر هم الحياة والشقاء فيها، وعليه فلم يبق عليهم سوى هم الآخرة، فأحدهم إمام مسجد والآخر خادم فيه، والثالث مؤذن، أما الرابع فقد افتتح جمعية خيرية، نصب نفسه رئيسها، وأعطى أخاه الصغير دروسا في غسل الميت، أما بناتها فقد بقوا في المنزل ليس لديهن من مهام الحياة سوى مساعدة أمهن في الطبخ والغسل، والتفاخر على الجيران بشراء أغلى الملابس النسائية والحضور بها في حفلات الزواج.

كانت ربة المنزل تجد في بيع ماء بئر زوجها ما يكفيها وذريتها دون الحاجة إلى مراقبة العامل الآسيوي وتدقيق الحسابات معه، ولهذا كانت تقبل مفاوضة العامل في أن يتم (التستر التجاري) عليه مقابل مبلغ صغير مقطوع من أرباح المركز التجاري، وكان الأب مشغولا عنها بتوثيق ملكية أرضه وما فيها من خيرات واستثمارات لدى الجهات المختصة.

من المفارقات أن الأولاد رغم (انشغالاتهم ما بين إمام مسجد ومؤذن وخادم ورئيس جمعية خيرية ومغسل أموات)، إلا أنهم بدؤوا يتحكمون في (إدارة المركز التجاري)، يبتزون (العامل الآسيوي) بضرورة الإغلاق وقت الصلاة، مع التحكم في بضائع المحل وأنواعها أحياناً، وصولاً لتنفير الزبائن القادمين من قريتهم والقرى المجاورة. كان طموح الأبناء أن يفهم جميع من في القرية أنهم المالكون الحقيقيون لهذا المركز التجاري وليس والدهم، وكان (العامل الآسيوي) يشير برأسه موافقاً على كل طلباتهم ما داموا مكتفين بالمبلغ المقطوع لتسترهم التجاري عليه، مع بعض التخفيضات لرئيس الجمعية الخيرية عند الشراء منه، وكان الأبناء مزهوين بكل ما يرمز لنفوذهم (الشكلي) على المركز التجاري، رغم أن كل ما تعطيهم والدتهم من واردات بيع الماء ينفقونه على مشترياتهم من العامل الآسيوي وأبناء عمه الذين استقدمهم بكفالة الأم لمساعدته في أعماله التجارية!

في أحد الأيام جاء والدهم من إحدى سفراته الخارجية وقال لزوجته: هل تابعت الأخبار؟ فقالت: أنت تعرف أن بيتنا لا يدخله تلفزيون، فلنا خصوصيتنا ولسنا كجيراننا، غض زوجها الطرف عن إجابتها واسترسل: كل القرى المجاورة لنا اتجهت لبناء السدود وحفر الآبار، وسينتهون من ذلك خلال بضعة أشهر، فقالت الزوجة: وما دخلنا نحن؟ فقال لها زوجها: المبالغ الطائلة التي كنا نجنيها من بيع الماء على الناس ستنقطع أو على أقل تقدير لن تكفي مصاريف أبنائك وبناتك، فقالت الزوجة: والمركز التجاري؟ فأجاب الزوج بحزم: المبلغ الصغير المقطوع الذي تأخذينه من ورائي من العامل الآسيوي لن يكفيك وأبناءك، ابتلعت الزوجة ريقها فلم تكن تظن زوجها يعلم بهذه التفاصيل المالية الدقيقة، قالت: وما الحل؟ فقال الزوج: الحل في أبنائك وبناتك يقومون على محلاتنا التجارية بأنفسهم، فأولادي وبناتي يتوزعون المهام الكثيرة داخل المحلات من كاشير إلى مدير تسويق إلى خباز... وأرضنا الزراعية سنعيد حرثها من جديد.

فقالت الزوجة: طيب كيف أقنع أولادك وبناتك بذلك؟! هل تظنهم مثل أجدادهم وجداتهم في (التجارة والصناعة والزراعة) إنهم جيل رخو ولا تغرك أعمارهم الكبيرة فلقد تعودوا (حياة الدلال في ثيابي التي فصلتها بيدي لهم) فقال الأب: هل تظنين أن عندهم شكا في بحثي عن مصلحتهم ورفاهيتهم في الحياة، فقالت الأم: أبداً والله، فقال لها: سأبدأ بك أنت وستلتحقين بمدرسة (محو الأمية) لأن مشاريعي المقبلة لهذه الأرض تتجاوز أفكار بيتنا الطيني القديم، لأن نكون أفضل بيت في قرية عربستان، سنكون يا زوجتي العزيزة أفضل بيت في مدينة العالم الجديد.

كان أولاد الأب الحكيم مختلفي الأعمار، فالذين تجاوزوا الـ50 ساروا في رغبة والدهم وتوجيهاته نحو (التطوير والتغيير) من باب الاحترام رغم عدم استيعابهم لما حصل لوالدتهم قبل أن يحصل لهم، باستثناء أخيهم (عناد) الذي بقي في صف (العامل الآسيوي) ضد والدهم بسبب (التحويلات المالية) الخاصة من العامل لعناد، وقد ظن أن والده لا يعلم عنها، فكان يجتمع بإخوته وأخواته ويقول: إن أبانا يريدنا أن نترك هم الآخرة إلى هم الدنيا، ثم استفز إخوته الصغار بعبارات دينية ضد والدهم كي لا يشعروا بما سيقدمون عليه من عقوق. فأخذ الأب ابنه (عناد) على انفراد وفرك أذنه هامساً: هل تريد أن أخبر إخوتك بتحويلات العامل الآسيوي لك، وأين كنت تصرفها؟! فصمت عناد مفجوعاً، ولم ينقض شهر على هذه الحادثة إلا وقد غير (عناد) اسمه إلى (سميح)، والتحق بإحدى دورات (الإتيكيت)، أما الأولاد والبنات اليافعون فانطلقوا بحماس وفرح ممسكين بمشاريع والدهم المتنوعة على أرضهم المباركة.

وأخيراً: أذكر وأنا صغير كنا ندرس في المرحلة الابتدائية أن تعداد السكان في المملكة العربية السعودية ستة ملايين نسمة، فهل ندرك فارق التحديات بين ذاك الزمن وتعداد السكان الحالي المتجاوز 30 مليون نسمة؟! مهما رأيتم في الحكاية أعلاه من سيريالية فإنها سيريالية مسرفة في سذاجتها مقارنة بالتحديات السياسية والاقتصادية التي تجاوزتها دولتنا منذ نشأتها وحتى الآن بعز وعدل ومجد خالد.