عيون العالم شاخصة نحو الرياض. الحدث الأبرز كان هنا، على مقربةٍ مني. فالعاصمة التي لا تهدأ ولا تنام بطبيعتها، تحولت خلال الأيام الفائتة إلى ورشة عمل كبرى. أكثر من ثلاثون زعيمًا ورئيس دولة وحكومة، حل عليها. الجميع لم يأتِ من فراغ، أو للاستجمام، بل قدم الكل يبحث عن مصالحه، لا لمقارعة الآخر حسب ما يرى البعض. فالمصالح، والاقتصاد، يُحركان السياسة. والمستقبل رهن بالتنمية، والتنمية لا يمكن لها أن تتحقق بلا اقتصاد. على هذا الأساس حضر الجميع.

فالقمم الثلاث التي شهدتها الرياض (القمة السعودية الصينية، والقمة الخليجية الصينية، والقمة العربية الصينية) لن تُبنى على استهداف أحد من أي نوع، لكن الأمر بطبيعة الحال لا يخلو من رسائل معينة، يحتمل البعض منها تأويلات واضحة، والآخر لا يحتمل، وهذه هي السياسة.

وقبل كل شيء يجب النظر إلى الدور السعودي، الذي أدى لجلب هذا القدر من الرؤساء والزعماء العرب، لمقابلة عملاق الاقتصاد العالمي. وهذا إذا له تفسير، فهو يؤكد الثقل الذي تحظى به المملكة في نطاقها العربي، والعالمي على حدٍ سواء، وهو ما استخدمته الرياض التي أرادت التأكيد للدول العربية، أنها حريصة على تنمية العالم العربي، لذا مهدت للزعماء العرب للقاء الرئيس الصيني.

قد يرى البعض أن هذا التجمع الكبير أنه يعطي إيحاءات حول التموضع العالمي الجديد على الأقل من النواحي الاقتصادية. وهذا صحيح. حيث إنه ثمة ما يجذب طرفا للطرف الآخر من حيث المصالح. فالصين هي بأمسّ الحاجة لبوابةٍ ذات موقع استراتيجي، تضمن لها استقرار نقل بضائعها واقتصادها بالمجمل إلى العالم بأسره، في ظل سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على المياه في بحر الصين الجنوبي، الذي يعتبر ممرًا وشريانًا للتجارة العالمية. والمملكة ضمنت لها ذلك. بحيث أن تكون لها النافذة المستقرة التي تطل من خلالها بكين على العالم.

لكن يجب القول أنه ما لم تلمس الصين الثقة بالمملكة، فلن تجازف بالتجارب. فما هي عوامل الثقة الصينية بالمملكة؟ الجواب، أولاً: الاستقرار السياسي الذي تعيشه السعودية. ثانيًا: التنمية المتسارعة التي تشهدها، والنقلة النوعية من الناحية الاقتصادية وتنوع مصادر الدخل، التي تحققت على الأقل خلال السنوات القليلة الماضية. ثالثًا: حجم الصادرات المتبادلة بين الدولتين، إذ تشير بعض الإحصائيات إلى أن حجم الصادرات غير النفطية بين البلدين تجاوز حاجز 41 مليار دولار خلال عام 2021. رابعًا: المزاج السياسي السعودي المتطابق مع المزاج الصيني، من حيث عدم البحث عن المقامرات السياسية، وعدم التغذية على البحث عن خصوم.

وقد تكون هناك بعض الرسائل التي ربما كان هناك رغبة في إرسالها وهذا مُتاحٌ في السياسة، إذ أرى على الصعيد الشخصي، أن بكين أرادت توجيه رسالة أو إشارة للغريم التقليدي، الولايات المتحدة الأمريكية؛ وهي أنها استطاعت التحالف مع أبرز حلفائها بالمنطقة، وتعني المملكة العربية السعودية. وهذا قد يتضمن عقد صفقات أسلحة. فالأمر مُتاح. وربما يكون للرياض بعض الرسائل. أبرزها أيضًا لواشنطن بطبيعة الحال، أنها منفتحة على الجميع، وأنه إن لم تعد المملكة ذات أولوية قصوى بالنسبة لواشنطن، فواشنطن أيضًا ليست ذات أولوية قصوى لها، وهذا ضمن حقوقها الطبيعية.

ذلك يؤكد عددامن الأمور، مثل ماذا؟ أن المملكة لا تقبل ولا تمنح لأحد مهما بلغ من قوة وتأثير، فرض الإملاءات السياسية عليها. وأن المعاملة بالند هو الأسلوب المتاح في الوضع السياسي الراهن. بالإضافة إلى أن مسألة أحادية القطب العالمي باتت قاعدة غير فاعلة، ولا تتناسب مع الأوضاع العالمية الحالية، التي تهرول نحو النمو وتنمية الدول والمجتمعات، بالإضافة إلى أن التجارب مع التحالفات الأبدية، التي قد تتعرض للاختلال مع مرور الوقت والسنين، أثبتت مع تقلب الأمزجة السياسية لا سيما في أمريكا بعد تولي الرئيس الحالي جو بايدن إدارة الولايات المتحدة، أنها لم تعد ذات جدوى.

أعتقد أنه يجوز تسمية اللقاء الذي جمع القيادة السعودية بالقيادة الصينية، بـ«قمة التحالفات الجديدة»، لا سيما أنها تجمع بين «مفتاح الشرق الأوسط، وعملاق الاقتصاد العالمي». وهذا حسب ما أرى ما قاد الرئيس الصيني الذي قدم برفقته وفدٌ عالِ المستوى إلى الرياض، وهو الذي لم يغادر بلاده منذ جائحة كوفيد 19 التي حلت بالعالم، إلا لزيارات لا تكاد أن تذكر. وهو ما يعبر عن الأهمية التي يمثلها هذا التجمع بالنسبة لجمهورية الصين الشعبية، النابع من الثقة بالمملكة العربية السعودية.

إن العالم بات بحاجة كبرى لإعادة النظام السائد، وإنشاء قانون متوازن، لا يقوم على الحالة المتفردة ذات الصوت الأعلى، ولا يعطي المجال لمنطق القوة، ولا يرى أحدًا أكبر من أحد، ولا يمنح الحق لأحد ويحرم آخر منه، ويكفل التساوي في الحقوق والواجبات لدول العالم بصرف النظر عن مقدراتها وإمكانياتها السياسية، بالنظر إلى الإنسانية دون غيرها.

لذلك فكرت المملكة في استقطاب هذا الكم الهائل من القادة.

اجتمعوا على طاولة واحدة، من أجل تنمية دولهم،ومجتمعاتهم.

يحق لنا القول، بأن عاصمتنا..الرياض هي من يصنع الفرق.

إنها حتمًا، سيدة المدن.والسلام.