كنت في طفولتي.. محاطًا بكثير من السيدات: والدتي.. برضاها علينا وعصبيتها لـ «أحوالنا وحرصها وخوفها على شقيقي وعلي، وجدتي.. بـ«كُتابها» وصلاتها ودلائل الخيرات» الذي لا تنقطع عن قراءته، والفقيهة حسينة بـ «قصصها» التي لا تنتهي، وعمتي.. بـ «مهارتها» في «المطبخ» وأناقتها المفرطة.. حتى أننا كنا نعلم بخروجها ودخولها من الرائحة الجميلة التي تتركها خلفها في سلالم الدار عند خروجها لزيارة بيت من بيوت الأهل أو الجيران أو عودتها، أما خالتي.. فقد كانت تتحلى بـ «أناقة الأثرياء» ومع ثقتها بنفسها وعدم خوفها من الغد إلا أنها كانت تطوي فؤادها على جرح موت زوجها «بابا قاضي مبكرًا في أحد مصحات جبل لبنان أما أعمامي الكبار فقد كانوا مشغولين عنا بأعمالهم وبـ«أنفسهم».. أما الصغير الشيخ إسماعيل مناع - رحمه الله ـ فقد كان يعمل مدرسًا في المنطقة الشرقية.. وكان يأتينا في الإجازات ليعيش أياما معنا، فكنت أسعد به في تلك الأيام القليلة أيما سعادة..

كانت أحياء جدة (التي أصبحت الآن.. القديمة).. مقسمة: فالأغنياء والأفندية غالبًا ما يسكنون «حارة الشام».. ووكلاء الحجاج و«البواخر» و«المعادي» ومن حولهم يسكنون «حارة البحر» في الغالب وحارة اليمن في الأقل، وكان الموظفون والتجار من أصحاب الدكاكين يسكنون في «المظلوم» و«العيدروس»، أما الفقراء جدًا.. فقد كانوا يسكنون «الصبخة»، لكن هذا التقسيم ليس جامدًا جمودًا تامًا.. حتى يمكن القول بأن أهل جدة بمختلف فئاتهم بين الغني والفقر يتخللون كل أحيائها، فقد كان في حي «الهنداوية» الذي سمي باسم الشيخ عبد الرزاق هنداوي.. قصرًا عامرًا يسكنه هو وعائلته، وابنه الوحيد إبراهيم زميل آخر سنوات الدراسة الثانوية، وفيما بعد ضم الحي بيوتًا فاخرة أخرى كـ«بيت» الشيخ حسن بكر - آخر شيوخ المعادي -، والشيخ عبد رب النبي رقبان.. ثاني اثنين في إرشاد السفن، وكامل فايز ابن الذوات وبيت الأصيل، وبيت أبو صفية، وكما ضمت بيوت حارة البحر بيوتا لعلية القوم من أمثال بيت «بن سليمان وبكر، وزينل، والشربتلي والمختار والناغي والبحراوي وعلي محسن والتركي (والد عبد العزيز التركي.. وكيل وزارة البترول وبيت البخاري بنجميه: عبد العزيز.. في «الخارجية»، وحسن في كرة القدم والطيران.. ضمت حارة اليمن العديد من عائلات جدة الغنية والميسوره من نصيف وخميس ورجب إلى الجخدار والبسيوني والعجلان و«الجدع» والغراب.. إلى بيت عاشور بفخامته المعمارية الباذخة..

لقد كان النسيج السكاني الاجتماعي جميلا في حارات جدة... تتداخل فيه الطبقات بعضها ببعض بحيث يصعب القول بتقسيم تلك الحارات «طبقيا».. لكن يمكن القول إجمالًا بأن غالبية سكان حارة الشام مثلا من «الأفندية».. وغالبية سكان حارة البحر من وكلاء الحجاج ووكلاء شركات البواخر ورجال المعادي (البحر).. وغالبية سكان «المظلوم» من التجار وأصحاب الدكاكين.. أما سكان العيدروس والعلوي وبعض حارة اليمن فهم من كل أولئك..

كنا نكبر.. وكانت حاجاتنا تكبر.. فكانت يد الفقر شحيحة لا تغطي مطالبنا القليلة، لكننا كنا نتلقى مساعدات غير مباشرة.. من خلال «خياطة» الثياب التي كانت تخيطها والدتي في شهري شعبان ورمضان (حتى نهاية سنوات الإعدادية).. لبعض من الأسر القادرة، التي أحسب أنها كانت تفعل ذلك.. دعمًا ومساعدة لنا وليس من أجل «خياطة» الوالدة التي خرطها الخراط واتمدد ومات» كما يقولون.. بدليل أنني كنت أول المتمردين على «خياطة» الوالدة عندما تحسنت الأحوال، على أية حال كان عائد الخياطة و«الكُتّاب».. غير كاف لمواجهة متطلبات شهر رمضان والعيد على وجه الخصوص، لكن الفارق بينهما كانت تسده مساعدة سنوية مباشرة كنا نتلقاها من الشيخ ع. ع. ل (يرحمه الله).. فقد كان يرسل لنا مساعدة من 300 إلى خمسمائة ريال فكانت تسد الفارق بل وأظنها كانت تمكننا أيضًا من حياكة ثوب جديد لـ «يوم عاشوراء»، وهو يوم احتفالي لا أدري لمَ اختفى؟ وإن كنا مازلنا نأكل فيه حلوى «العاشورية».. التي تتولى إعدادها زوجة شقيقي هي و«الدبيازة» منذ أن انتقلت والدتي الى رحمة الله أواخر عام 1990م وحتى يومنا هذا.. إلا أننا لم نعد نلبس فيه الثياب الجديدة.

لقد علمتني تلك التجارب الأولى وجعلتني أفعل فيما بعد ما كان يفعله الشيخ (ع. ع.ل) لنا عن طيب خاطر وسعادة.. نحو من يسرني الله لعونهم.. وكأني بهذا أسدد ذلك الدين الإنساني القديم!!

2005*

* كاتب وصحافي سعودي «1940 - 2021»