يمثل التضامن الإنساني هدفًا رئيسًا تسعى المنظمات الدولية كافة، إلى تحقيقه ضمن مساعيها الهادفة لتحقيق التنمية المستدامة، وترسيخ قواعد التعاون الدولي لمواجهة التحديات العالمية ذات الطابع الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الإنساني، وبما أن عالم اليوم أصبح في ظل العولمة والنظام العالمي الجديد بمثابة القرية الواحدة، فقد بات من الضروري تعزيز تلك المبادئ السامية ودعم الدول الأكثر احتياجًا لتحقيق النهضة الاقتصادية ومحاربة الفقر والأمراض، انطلاقًا من وحدة النوع التي تميز الجنس البشري ومظلة الإنسانية التي تجمع كافة الناس.

وقد حرصت الأديان السماوية على تعزيز هذا المفهوم النبيل، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)، كما حث الإسلام أتباعه على الإحسان لجميع البشر وضمان حقوقهم، مهما كانت أديانهم وأعراقهم، وأقر التعامل والتعاون في شؤون الحياة مع المخالفين واحترام قناعاتهم وصون أملاكهم ودمائهم، ومنع التعدي عليهم أو على دور عبادتهم وإكراههم على الدخول في الإسلام بالقوة.

ولأن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي فإنه لا يستطيع العيش بمعزل عن الآخرين، ولا يمكن لأي دولة أن تستغني عن بقية دول العالم، حتى ولو كانت الأكبر اقتصادًا والأكثر موارد، كما أن طبيعة العمل الاقتصادي بصورته الحديثة تستلزم التعاون وتتطلب تبادل المنافع، لذلك فإن الدول الأكثر احتياجًا والتي لم تحظ بالنهضة الصناعية تظل سوقًا لمنتجات الدول الأخرى؛ لذلك فإن مساعدتها على استغلال مواردها ومقدراتها الاقتصادية تحمل منافع مشتركة، كما أن تسهيل الوصول إلى التنمية والرخاء في جميع دول العالم يظل عاملا رئيسيًا لتحقيق السلم العالمي والقضاء على بؤر التوترات الأمنية التي تهدد العالم برمته.

ومنذ توحيد المملكة العربية السعودية على يد المغفور له -بإذن الله- الملك عبد العزيز آل سعود، فقد حرصت على تلك المبادئ معها واتباع سياسة معتدلة تقوم على التعاون الإيجابي مع كافة دول العالم، وتعزيز مبادئ عدم التدخل في شؤون الآخرين، ومد يد العون والمساعدات للدول الفقيرة التي تواجه كوارث إنسانية.. وخلافه.

ومع حدوث النهضة الاقتصادية والتطور الكبير الذي شهدته السعودية خلال العقود السابقة، فقد توسعت في تقديم العون الإنساني بجميع أشكاله لدول العالم كافة، لا سيما العربية والإسلامية، وأنشأت العديد من المؤسسات والهيئات التي تعنى بهذا الجانب، وكان إنشاء مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية علامة مضيئة، حيث لم تمض سوى سنوات قلائل على إنشائه حتى وصل عدد الدول التي تعامل معها إلى 120 دولة، كما تم تصنيف الرياض كأكبر الجهات المانحة للمساعدات، وفق تقرير رسمي للأمم المتحدة.

ويأتي التزام المملكة بهذه المبادئ المختلفة في مجالات التضامن الإنساني، انطلاقًا من دورها الكبير كقائدة للعالمين العربي والإسلامي، وسعيًا وراء تحقيق أهداف وتطلعات التنمية المستدامة 2030، التي أقرتها الأمم المتحدة للقضاء على الفقر والجوع وتوفير الصحة الجيدة والتعليم الجيد، وتحقيق المساواة بين الجنسين، وضمان توفير المياه النظيفة والطاقة النظيفة، وإيجاد فرص العمل وتعزيز الصناعة والابتكار، وغيرها من الأهداف الأممية التي تُعنى بتنمية الشعوب.

لذلك كانت المملكة على الدوام سبّاقة في هذا المجال، انطلاقًا من جوهرها الإنساني النبيل، حيث أصبحت رائدة في تقديم المساعدات للدول والشعوب في كل مكان، وهو ما يعكس فلسفتها في التعامل مع الآخر التي قوامها التعايش والتضامن والإخاء، عبر تعزيز الأمن والاستقرار، وتحسين مستويات المعيشة لجميع الأفراد وفي كافة دول العالم.

لم تقتصر مساعي المملكة لتعزيز التضامن الإنساني على تقديم المعونات المادية والعينية، بل حرصت على دعم الدول النامية لتحقيق التنمية الاقتصادية، وفي سبيل ذلك قدمت العديد من القروض ودخلت معها في شراكات تهدف إلى إنعاش اقتصادها، حتى المساعدات الإنمائية والإغاثية التي قدمتها للعديد من الدول حرصت على شراء مكوناتها من ذات الدول المستهدفة وتعبئته، ونقلها بواسطة أيدي عاملة محلية، وذلك لتشجيع عجلة اقتصادها على الدوران، وإيجاد المزيد من الفرص الوظيفية.

وإدراكًا لحقيقة أن ظاهرة الإرهاب نشأت نتيجة لأفكار متشددة، بذلت المملكة جهودًا كبيرة لتعزيز مسيرة الحوار الإنساني لتفنيد أفكار الغلو والتطرف، ولذلك أنشأت مركز الملك عبد الله للحوار الإنساني، ومركز اعتدال لمواجهة الفكر الإرهابي، والتحالف العسكري الإسلامي، وبذلت جهودًا كبيرة لمواجهة أفكار العنف ودعوات التنطع، وأقامت العديد من الندوات والفعاليات لدفع وتعزيز ثقافة المشاركة، وترسيخ قيم التعايش، وتأكيد حق الآخر في الاختلاف.

لذلك فإن الاحتفال باليوم العالمي للتضامن الإنساني يأتي للتذكير بأهمية هذه المبادئ، وأنه عمل دائم ومستمر على مدار العام، وليس مجرد مناسبة أو شعارات وبرامج مؤقتة، فهو جزء أساسي يمثل أهم الركائز لصون السلم والأمن الدوليين، وتشجيع الحوار العالمي وتعزيز وتضافر الجهود لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، فالعالم أحوج ما يكون اليوم إلى الإعلاء من شأن هذا الإرث الإنساني وتأكيد قيم التضامن والأُخوَّة والتعاون في مواجهة التحديات الإنسانية والإنمائية العالمية.

وإن كانت الكثير من دول العالم تهتم بتقديم المساعدات الإنسانية والإنمائية فإنها للأسف تربط ذلك بتحقيق أهداف وأجندة معينة أو لتحقيق مصالح محددة، وهو النهج الذي ابتعدت عنه المملكة ونأت بنفسها عنه تمامًا، فهي عندما تقوم بدورها الرائد في هذا الصدد فإنها لا تربطه بأي أهداف أيديولوجية أو سياسة، مهما كانت، وتشدد على أن تكون مساعداتها وأياديها البيضاء خالصةً من أي أهداف غير هدفها السامي المعلن، والشواهد على ذلك كثيرة وأكبر من أن يحصيها هذا المقام.