ديسمبر من كل عام هو شهر احتفالات المسيحيين بالكريسماس، الذي يعقبه بأيام قليلة الاحتفال بالعام الميلادي الجديد في العالم كله.. هذا الشهر هو الذي يعود علينا كل عام بنقاشات جدلية عقيمة تدور حول تحليل أو تحريم وإنكار أو قبول إرسال التهاني والتبريكات للأصدقاء من الديانة المسيحية في أعيادهم!

سنوات عديدة ونحن ندور بحلقة جدل مفرغة، تعود بنا إلى نقطة البداية نفسها..! فإلى متى..؟ وما هو أصل محور الجدل؟

لو تناولنا الموضوع من ناحية الحلال والحرام فأعتقد أن النبي المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم كان خير متمم ومعلم لمكارم الأخلاق والتي يمكن أن نعتبر أحد جوانبها مشاركة ذوي الأديان الأخرى والثقافات المختلفة أفراحهم وأعيادهم بالتبريكات وتمني الخير لهم أو بحضور مناسباتهم وتناول الطعام من مآدبهم ما لم يكن طعامًا محرما، للمجاملة وكتعبير عن التقبل رغم الاختلاف، وإشاعة السلم والتعايش في الأرض بسلام واحترام مع وجود حاجز عقائدي وقيمي قوي الأساس عند الإنسان لا يمكن للثقافات الأخرى اختراقه أو التأثير عليه، وهذا هو الاختبار الحقيقي لمتانة الأساس الديني عند الفرد سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، خاصة في ظل العولمة، والانفتاح الرقمي، وتمازج الثقافات التي هُدمت معها اسوار العزلة المجتمعية التي كانت تحافظ على خصوصية المجتمعات التي كانت تحد كثير من ثأثر أفراد مجتمع معين بثقافة الغير أو دينهم.

أما فيما يتعلق باحتفالات رأس السنة الميلادية فلماذا يتحسس منها البعض بشكل مبالغ فيه ويخاف من ثأثيرها على قيمنا وعقيدتنا وكأننا أصحاب قيم هشة وعقيدة لم تضرب جذورها بعمق داخل الروح والقناعة..!

التاريخ الميلادي كان وما زال المعتمد عالميا في التأريخ لملاحم حضارات مضت في العالم القديم.. ولكل التعاملات في التاريخ الحديث.. فقديمًا كان يشار إلى الزمن بما قبل الميلاد وما بعده.. وحديثًا كل التعاملات الاقتصادية وغيرها يعتمد فيها التاريخ الميلادي.

ولو سأل سائل يجهل ميلاد من الذي حسبت تواريخ الحضارة الإنسانية لما قبل مولده وما بعده.. لأجبناه أنه عيسى عليه السلام.. نبي من أولي العزم من الرسل الذين لا يتم إيمان المسلم إلا بالإيمان به وبكل نبي أنزل الله عليه مهمة التبليغ بوحدانيته والدعوة لتوحيده عز وجل.. وهذا سبب رئيس يجعلنا نحترم التاريخ الميلادي والسنة الميلادية ونحتفل بها سواء بالمشاركة إذا كان ذلك متعارفًا عليه في البيئة المجتمعية التي نعيش فيها، أو بالاحتفال الشخصي مع أنفسنا من خلال التأمل بأحداث عام مضى ومراجعة كل شيء فيه ليكون عامنا القادم أجمل.. وأيضًا من خلال والتفاؤل بعامل قادم بتبادل الأماني والأحلام والتخطيطات لما هو قادم مع الدعاء أن يجعله الله عام خير وبركة على النفس والأسرة والمجتمع والعالم كله.

الاحتفالات لها أوجه متعددة وفعاليات مختلفة، ليس معنى أن آلية احتفالات العام الجديد في بعض الدول لا تناسب مجتمعاتنا الشرقية أن نحرمها.. لا أبدًا.. فهناك كثير من الدول التي تحتفل برأس العام الميلادي بما يتناسب مع شرقيتها وقيمها وبما لا يتعارض من دينها.. الأمر فيه سعة ومرونة يجب نشكلها بما يتناسب معنا دون تشنج وتراشق بالجدال بين المؤيد والمعارض.. وبين المحلل والمحرم.. فالأمر أبسط من ذلك بكثير.

وكي لا يُفسر كلامي بما لم أقصده.. التاريخ الهجري الذي له مكانته في نفس كل مسلم والذي بدأ المؤرخون المسلمون تاريخهم للأحداث به من وقت ما هاجر نبي الرحمة من مكة إلى المدينة، هو تاريخ له قدسيته وأهميته التي تعني لنا الكثير نحن المسلمين.. ولكن أهميته عندنا لا يمكن أن تجعلنا ننكر التاريخ الميلادي وأهميته وما يتعلق به من طقوس يجب أن نكون لينيون في التعامل معها.

وباختصار العالم الذي بات يغلي بأحداث دموية وعنف ندفع كبشر ثمنه من أرواحنا وطمأنينتنا وهدوئنا، أصبح بحاجة إلى تسامح أكثر في تقبل الغير، ومشاركة الفرح بدون المساس بالأساس الديني والهوية المجتمعية، والسلام الذي أصبح العالم بحاجة ماسة إليه يتطلب منا سلامًا داخليًا يبدأ من ذواتنا يملؤها فم يفيض لينسكب على من يشبهنا ومن يختلف عنا.. وهذا ما نحتاجه في هذا الوقت.

اللهم اجعله عام سلام وخير على البشرية كلها.. وكل عام وأنتم بخير.