عندما أكون في الريف لا يشغلني شأن من شؤونه، هو أمتع للنفس وأولى بالدرس من تحصيل مواده التي أسميها «أدب الريف» وهي:

(1) الأمثال الموروثة (2) مراثي النواح النسائية (3) الأساطير المعبرة عن أحوالهم الاجتماعية والنفسية، وآسف كثيرًا لأن هذه المواد الغزيرة لم تدخل بعد في الأدب الفصيح ولم تحسب من ثروتنا الفكرية والفنية، مع أنها ترتقي عند الاختيار والتمييز إلى طبقة تضارع المأثور من مثيلاتها في أرقى الأمم وأبلغ الآداب. وفي بعضها ــ وهو مراثي النواح ــ باب للمقابلة بين الألحان المصرية الحاضرة والألحان التي كانت شائعة في عهدي العرب والفراعنة، وباب آخر للمقابلة بين تعبيرات النفس المصرية قديمًا وحديثًا في الحزن على من تفقده في مختلف الأعمال والأحوال.

فالمرأة محافظة في عاداتها البيتية التي ترتبط بها مراسم الأسرة، وشعائر الحزن أبقى الشعائر وأدومها لأنها لا تزال تكسب من الموت صبغة الدوام والتقديس والعصمة من التغيير. فإذا بحثت مراثي النساء لم يخل البحث من نتيجة تكشف لنا من الموسيقى المصرية القديمة وتعبيرات النفس المصرية ما لم ينكشف لنا في غيرها هذا المجال.

أما الأساطير فحاجتنا إلى جمعها وتهذيبها أكبر من حاجتنا إلى جمع الأمثال ومراثي المآتم، لأننا جهلنا حتى صدقنا ما يقال عنا من أننا ــ نحن الشرقيين ــ أمم خالية من الأساطير المعبرة، وعلى هذا نكون أمما مقفرة الخيال عاجزة عن الابتكار والتعبير القصصي الذي اشتهر به اليونان خاصة في الشعوب الأوروبية، بل جهلناها حتى لنستغربها حين نسمعها كأنما نستمع إلى كلام منقول أو كلام مترجم، مع أنها تعبر عن حياتنا الشعبية ولا تعبر عن حياة الشعوب الأخرى، ومع أنها حين نلتفت إليها كثيرة جدًا تفيض بها أحاديث الشيوخ والعجائز ولا تحسب عندهم من خير ما يتحدثون به ولا من خير ما يحفظون.

والحقيقة أن الأساطير الشعبية التي تعبر عن الحالات الاجتماعية والنفسية كثيرة في بلاد الريف، وأن بعض هذه الأساطير من نوع يحتاج المؤلف في تأليفه إلى خيال وملاحظة وملكة فكاهية كالتي تظهر لنا في أحسن الأساطير، وهي مفصلة على حسب الأشخاص والطوائف، ففيها أساطير عن المرأة السليطة وأخرى عن الورع الكاذب وغيرها عن الحكام المدلسين، ومعظمها يعبر عن الأغراض التي وضع لها أظرف تعبير.

حدثني حلاق ريفي فيما يثرثر به من أحاديث البلدة ومواضع الاعتبار فيها بالقصص والأمثال قال: كان تاجر من كبار التجار مبتلى بامرأة سليطة نغصت عيشه وأفقرته وبغضته في وطنه فأزمع الفرار بنفسه من هذا البلاء وعقد النية عليه وتحين الفرصة الأولى التي غفلت فيها عين امرأته عن مراقبته وتسخيره، فأبق من بيته وبلده ولاذ بالعراء يخبط فيه على غير هداية ومضت على ذلك أيام وهو آمن مستريح من جور امرأته هانئ البال بهذه الراحة، وإن كان في قلق وخوف من الأشرار والوحوش وغيرها من الآفات التي تعترض المسافرين في العراء، وإنه لنائم في اليوم الرابع أو الخامس عند بئر منحرفة عن الطريق إذا بيد تلكزه وصوت امرأة يصيح في أذنه. فهب مذعورًا من نومته... من المرأة ؟ أهي ؟ ! نعم هي بعينها ويدها ولسانها... !

1929*

*كاتب مصري «1889 - 1964»