تؤكد الرواية الشعبية على لسان الثقاة من أهالي وسكان محلة المظلوم بمدينة جدة، أنه كان إذا خرج إلى الحلقة بعد صلاة الصبح في الشافعي كانت أنظار الموجودين والمتسوقين بها تتجه رأساً إلى ما يرتديه في يومه.. فإن كان قد وضع السجادة الصوفية المرقطة على كتفه الأيمن فمعنى ذلك أن نهارهم سينقضي في عراك وضرب وصراخ لا يهدأ.. حتى بعد منتصف الليل!!

ذلكم.. هو إبراهيم خليل الكلاش.. الشهير بأبو عرام.. والمولود ببلدة جدة في منتصف العشرينيات الهجرية.. بالعزلة ذات الدورين الكائنة غرباً أمام زاوية المظلوم نفسه ـ الزاوية التي جعل منها أهل الكار والضلال بؤرة للبدعة المستوردة ـ حيث كانت تقام فيها كل ليلة جمعة حلقة الذكر المستقبحة والمنقرضة.. يتمايل فيها الرجال الغائبون عن صوابهم.. ويغني بها الفتيان المفتونون بشبابهم.. والتي لا تنتهي إلا بإحدى الهوشات الليلية.

.. وكان والد أبو عرام.. الشيخ خليل من كبار المولعين بتلك الحلقات المجنونة يهدر بعضاً من كسبه الوفير نوعًا ما على أهلها في الولائم والسهرات. وحين توفي الشيخ خليل بعد إصابته في رأسه بضربة شون مزقر.. حل ابنه أبو عرام مكانه في مشيخة الحلقة.. وكانت أعوام مشيخته الأولى بشهادة أهل الخبرة أعوام رخاء كبير فقد ظلت فيها الأمطار تهطل بغزارة مما نتج عنه طلوع الشقلا بقلا خبيزه.. حول مقبرة امنا حواء بشكل لم يعهده الأهالي من قبل.. وتكاثر الدَّبَا والجراد.. وإذا كثر الجراد رخص اللحم.. وتوافرت الجبنة الزقزق.. والسمن البري.. والطليان الحري.. والدجاج والبرابر والديوك العشارى.. وتنوعت الخيرات.. فنعم الناس في لياليهم.. وخصوصًا بشكة أبو عرام بأكل الجراد مقليًا مملحًا وموضوعًا في التباسي تحف بها أحقاق الدقة المصنوعة من الكمون والفلفل الأسود والملح الأبيض يضاف إليها قليل من النعناع أو ملح البيض.. وتعتبر تباسي الجراد بمثابة ((النُّقُل)) يتسلون بها لحين حلول موعد العشاء بفتح العين.

كما نعموا في وجبة الصباح بأكل التمرة المخلوطة بالبيض أو المصنوعة من البيض المخلوط بالسكر.. أو بالجبنة الزقزق بالسكر.. وذلك عدا أطباق المعصوب والمطبق والمقادم بالقَطْفةَ.. وبجوارها أطباق الفول تغطيها طبقات من السمن البري.

أما وجبات الغداء والعشاء الرئيسية فكانت نماذج غنية باللحوم الحمراء والبيضاء بين سلات ومضبي وندى أوزربيان.. أو صيادية حمراء.. أو سليق مع العبيلة التي يصر أبو عرام على توزيعها في زبادي صغيرة مع انفراده هو بقدر صغير منها خاص به.. وقد يصطفى من يشاركه فيه أحيانًا من بعض الأصفياء في بعض الليالي المقررة!!

وهكذا أخذ أبو عرام يفيض على من حوله دون منٍّ أو تقتير.. بل إن أياديه كانت تمتد إلى كيس نقوده باستمرار.. ليدفع لهذا ولذلك من أهل محلته ما يطلب لفك ضائقة.. أو تكملة لنقص.. أو سدًا لموجب.

وتدور الأيام.. ويشح ماء السماء.. وتقل واردات الحلقة بما في ذلك الحطب والفحم والحشيش العتري.. والبرسيم.. فتنكمش واردات أبو عرام ولكنه لا يضيق بذلك.. ولا يغير عادة من عادات كرمه الدائم المعتاد.. مرددًا في سره ولنفسه المثل الشعبي الدارج: ((مين وَلَّفَ الناس بعادة سموه أبو العوايد)) ولكنه إزاء وقفة الحال هذه كما سماها.. يختلي في إحدى الليالي بأحد سماسرة العقار سرًا وتمتد يده إلى وثيقة العزلة الصغيرة فيبيعها.. ثم يألف البيع.. لأنه يكره الرهن.. فيبيع القراريط التي له في بعض بيوت الحي.. حتى ينتهي به الأمر أخيرًا إلى بيع العزلة الكبيرة سكناه.. شرط سكناه بها طول حياته!! ولكن فقيد الكرم والمروءات والبحبحة.. أبوعرام.. لم يتمتع بمزية هذا الشرط.. إذ اختطفه الموت في ليلة أيام الحج.. عقب حفلة عشاء فريدة في بابها.. وكان اختطافه مفاجئًا حتى إن من سمعوا بنبأ وفاته في النهار لم يصدقوا ذلك حتى رأوا باعينهم النعش خارجًا من مسجد الشافعي.. وقد ازدحم سوق الجامع.. فسوق البدو بالمشيعين من جميع المحلات في مدينة جدة.. وخارجها.

ذلكم هو إبراهيم خليل الكلاش الشهير بأبو عرام في إيجاز.. ودون مغالاة.. أو رتوش.. أما سبب إطلاق كلمة (أبو عرام ) الذائعة الصيت.. فهو ذلك الصنيع الذي كان يفعله أبو عرام طيلة حياته لا فرق بين سرائه وضرائه.

1974*

* شاعر وصحافي سعودي «1911 - 1979»