سألت عددا من صديقاتي الأمهات عن إمكانية مباركتهن لاستقلال الأبناء والبنات في منازلهم الخاصة بعد أن يكبروا ويتوظفوا ويتمكنوا من الإنفاق على أنفسهم.

كانت نسبة المعارضات للفكرة هي الأعلى، وطرحن أسئلة من قبيل (كيف يتركونني بعد ما تعبت عليهم؟ كيف يعتنون بأنفسهم من دوني؟ كيف أعرف ماذا يفعلون؟).

نشعر في أعماقنا أننا نملك أبناءنا، وأنهم بشكل أو بآخر مدينون لنا بما بذلناه لأجلهم. وقد عززنا بخطوة ثقافية استباقية هذا الشعور فوسعنا مفهوم (العقوق) ليشمل هواجسنا كافة.

نحن أيضا واقعون في حالة من انعدام الثقة بقدرات الأبناء أو بسلوكهم أو حتى بمحبتهم لنا، التي يفترض أنها كافية لإبقائهم متصلين بنا روحيا ونفسيا، ولو باعدت بيننا وبينهم الأماكن.

في المجتمعات الغربية، استقلال الأبناء عن منزل الوالدين بعد عمر معين، يعد دليل نضجهم وقدرتهم على تحمل مسؤولية حياتهم وقراراتهم. ويبارك الآباء هذه النقلة في حياة الأبناء ويحتفون بها، فهي تعني أن مهمتهم الأبوية في التعليم والتربية قد نجحت وأثمرت إنسانا قادرا على خوض معركة الحياة معتمدا على نفسه. كما أن النظرة الاجتماعية للشخص المستقل إيجابية جدا.

أما في المجتمعات الشرقية عموما فالمعادلة مختلفة. إذ يعيش الأبناء غالبا في بيوت آبائهم حتى يقرروا الزواج، مهما حصلوا على وظائف أو اكتسبوا من أموال أو تقدم بهم العمر. ويستمر الآباء والأمهات في تخطيط حياة أبنائهم، يخافون عليهم أحيانا من تجارب الحياة الطبيعية كالسفر والعلاقات والمشاريع وغيرها.

على المستوى الشخصي أقدر النموذج الغربي جدا واعتبره الخيار المنطقي الأصوب والتجربة الاجتماعية الأعمق. صحيح أنني أنطلق في رأيي هذا من احترامي الشديد لمبدأ (الفردانية) التي أعتقد أنها أهم بواعث التفوق الفكري، وأقوى محفزات المناعة النفسية، لكنني من جهة أخرى، أرصد نتائج نظامنا الأسري الجمعي على أرض الواقع، ولا شك بأننا نسبب ضررا لأبنائنا عندما نؤسس علاقتنا معهم على فكرة التملك والاحتياج المتبادل طويل المدى.

وجود الأبناء المستمر تحت الحماية والمشورة الوالدية، يقلل من فرص تطوير مهاراتهم الحياتية، فهم يعتادون أن يتخذ الآباء والأمهات القرارات المصيرية في حياتهم مثل الدراسة والعمل ومقر السكن والمعيشة. بل حتى اختيار الأزواج والزوجات وفق تفضيلات الأبوين الشخصية. ولو أردنا التفصيل في مسألة الزواج هذه كمثال واضح، لوجدنا أن الأم تفترض في زوجة ابنها أن تحل محلها وتكمل مشوارها في رعاية الشاب الذي لم ينفصل عن أمه يوما. لذلك يندر أن نسمع عن زوج يصنع قهوته أو يغسل ملابسه أو يشارك زوجته العناية بالأطفال.

الزوجة أيضا تنتقل من بيت الأب إلى بيت الزوج، دون المرور بتجربة الاستقلال فلا تتاح لها فرصة الإنفاق على نفسها، ولا تعرف قيمة المال والعمل والإنتاج والغطاء، وغير متمرسة على إدارة الأزمات، فتبقى في علاقتها بزوجها الطرف المتطلب المستهلك وليس الشريك المساند الصانع لملامح الحياة.

والأمثلة لا تعد ولا تحصى عن التأثير السلبي لإلغاء خصوصية الفرد وتحديد مساحته، وبناء حياته حول فكرة الانتقال من بيت الأسرة إلى بيت الزوجية مباشرة دون المرور بمرحلة انتقالية يتهيأ فيها ويتحول إلى شخص مسؤول.

ختاما... أقول للآباء والأمهات، عندما يكتسب أبناؤكم المال ويصلون لقناعة الاستقلال، لا تمنعوهم.

الجدران الأربعة التي يدفع الإنسان ثمنها من عمله وجهده تحمي شخصيته من الضمور والهشاشة، وتقلل من اتكاليته وتذمره، وتنضج الطفل داخله.

كونوا فخورين بتطور أبنائكم ونضوج شخصياتهم، واعملوا على تغذية مشاعر الثقة والود والتعاطف معهم، وتذكروا أن الطيور الحرة المحلقة أقوى وأكثر ولاء لأعشاشها من تلك الحبيسة في أقفاص من ذهب، تلك التي لم تختبر أجنحتها أبدا، وربما إن حلقت يوما لا تعود.