في المجلد الأول من كتاب رحلة ابن بطوطة «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، وفي الصفحة 113، «فصل أخبار أهل مكة وفضائلهم»، قال المؤلف الشيخ أبو عبدالله محمد الطنجي، المتوفى عام 779 هجرية: «يعرف أهل مكة بالأفعال الجميلة، والمكارم التامة، والأخلاق الحسنة، والإيثار إلى الضعفاء والمنقطعين، وحسن الجوار للغرباء، ومن مكارمهم أنهم متى صنع أحدهم وليمة يبدأ فيها بالطعام للفقراء المنقطعين والمجاورين، ويستدعيهم بتلطف ورفق وحسن خلق، ثم يطعمهم ـويضيف- وأهل مكَّة لهم ظُرف، ونظافة في الملابس، وأكثر لباسهم البياض؛ فترى ثيابهم أبدًا ناصعة ساطعة، ويستعملون الطِّيب كثيرًا، ويكتحلون، ويكثِّرون السِّواك بعيدان الأراك الأخضر..».

استهلالي بما سبق، سببه ألم المصاب بفقدي الشخصي للعم «حسني صالح سابق»، الذي رحل عن دنيا الفناء لدار البقاء، فجر الجمعة قبل الماضية، عن (87) سنة، والذي اجتمعت فيه -دون مبالغة- الأوصاف المذكورة في الاستهلال، من صنع الجميل مع الناس بعمومهم، لا سيما إن كانوا من أهل العلم، مع التفنن في إكرامهم بما لذ وطاب، إن دعاهم عنده في داره في «مكة»، أو في مصيفه «الهدا»، أو عندما يرسل لهم ضيافته في أماكنهم، ومن هؤلاء سيدي الجد وسيدي الوالد، والسادة آل البار والسقاف والحداد والمالكي والجيلاني وجمل الليل وغيرهم.

الظُرف، الذي ذكره ابن بطوطة، غير مصطنع عند الفقيد، فقد كانت له «ظرافة» و«فكاهة» ملحوظة، يذهب بها عن جلسائه الملل والضجر، يذكرني ذلك بـ«الإحماض»، الذي كان بين سيدنا ابن عباس، رضي الله عنهما وطلبته، فإنهم كانوا إذا أكثروا معه من القرآن وتفسيره، والحديث وكتابته قالوا له: أحمض لنا قليلا، فيسرد لهم من القصص ما فيه فكاهة وظرف، أما «النظافة» التي دونها ابن بطوطة، فقد كان العم حسني كذلك، داخل بيته، فضلا عن خارجه، في منتهى الأناقة والنصاعة وزكاء الرائحة.

العم حسني أحد الذين أسهموا بشهادتهم الشرعية في توسعة المسعى بالمسجد الحرام، وعمل فترة في أمانة العاصمة، وكان محل ثقة أمين العاصمة عبدالله عريف ــ الوالد المؤسس جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود، هو من أطلق «العاصمة المقدسة» على «مكة المكرمة»، وأول مسؤول أُطلق عليه لقب «أمين العاصمة» هو الشيخ عباس قطان، وأول من أطلق عليه لقب أمين «العاصمة المقدسة» هو المهندس عبدالقادر كوشك، وأول من أطلق عليه لقب «معالي أمين العاصمة المقدسة» هو المهندس فؤاد توفيق ــ بعد ذلك تفرغ لحياته الخاصة، ومنها المطالعة ومراجعة الكتب والمقالات، وطبع الملفت منها.

وكان مثقفًا جدًا، شهد له بذلك عارفوه، كالأمير تركي بن عبدالعزيز، والرائد الصحافي حسن قزاز، والأديب الكاتب عبدالله الجفري، وكان يحكي لي كثيرًا عن مراجعاتهم الراقية، وكنت أشعر بذلك حقيقة عند مناقشته لي كل مقال يتم نشره.

واشتغل في «الحلاقة»، و«الأخشاب»، و«البلاستيك»، والمقاولات، و«حجاج الداخل»، ثم «المطاعم»، متخصصًا في «المبشور»، الذي انتشر من مكة، وكان مخلصًا في إعداده، وتجريد الدهون والعروق من اللحم، وتقديمه مع اللبن والسمن «البلدي»، كان متواصلا مع «البشكة»، مستخدمًا «وسائل التواصل»، ومن أهل «المواجيب»، ومع معاناته الصحية في الأشهر الأخيرة لم يتبرم رغم الألم، وكانت الابتسامة - غير الملونة - لا تفارق محياه.

اللهم ارحم الميت الحي، العم حسني سابق، ولا تجعلنا يا ربي من الأحياء الميتين، وصدق الإمام الشافعي:

«قد ماتَ قومٌ وما ماتَت ْمكارِمُهم * وعاشَ قومٌ وهُم في الناسِ أمواتُ».